محطات ثلاثة طبعت بألوانها عالمي الصغير .. عالمي الخالي
من التكنلوجيا .. الخالي من التلفونات الذكية ولا غير الذكية .. لم يكن عندنا لا
كهرباء ولا تلفون في البيت ولا حتي مياه جارية في حنفية ولا غير حنفية .. نرد
الماء من أماكن بعيدة أولا ثم بدأت تقترب رويدا رويدا تلك الأماكن .. الجردل الذي
كان يصل البيت نصفه فارق من كثرة التدفق في الطريق صار يصل ممتلئ الأ قليلا ..
حياتنا البسيطة التي لم يكن فيها لا ألعاب الكترونية ولا ألعاب كمبيوتر ولا حتي التلفاز لم يكن
متوفرا حتي في عالم الحلم والخيال ناهيك من عالم الواقع .. حتي الراديو (الترانزيستر)
كان محصورا علي أسر قليلة تعد بالاصابع .. كل هذه التقنيات التي تعد اليوم من
المسلمات في أي مكان.. كانت اما لم تطل
علينا أو لم تكن فد اخترعت بعد لكن رغم ذلك كان لنا عالمنا المليئ بالالعاب التي تبنيها
أيدينا وتخترعها عقولنا الصغيرة فالبنات كنَ يصنعن عرائسهن من القصب ويزينهن باجمل
قطع الملابس وألاولاد كنا نصنع كرة القدم من بقايا الملابس القديمة والشرابات
(الجوارب) ونتنافس في أي كرة أحسن صنعا وأيها أجدر بالأختيار للعب .. كنا نصنع
السيارات من السلوك المعدنية ونضع لها الأيطارات أما المقود فطوله طول قامة الطفل
يسوق سيارته وهو يمشي أحيانا أو يركض أحيانا أخري .. وكنا نسطنع الصوت ليجاري
السيارة الحقيقية وهي تذيد في السرعة أو تبطئ في السرعة وأحيانا الفرملة المفاجأة
وما أحلاها الفرملة عندما يكون خلفك أثنين أو ثلاثة من الأقران فيحدث التراطم والتدافع
.. كنا كذلك كنا نستخدم الأطار الحديدي للعجلات "عنكليل" وندفعها بقطعة
من الخشب أوالحديد لتتسارع ونركض خلفها .. عادة ما تستخدم "العنكليل"
عندما ترسل الي الدكان "الحانوت" لشراء بعض الأغراض الخفيفة.
اللعب لم يكن هو الأوحد الذي كان يملا أوقاتنا بل كانت
الخلوة والمدرسة وشارع شفشفيت من أهم المحطات التي طغت بألوانها عالمي الصغير ..
كنا نداوم في الصباح في خلوة الشيخ محمد عمر عندما كان يقرئ في دار أخيه القاضي محمد
أدريساي ,, وكانت تقع علي قمة الربوة "عَرِيب" فوق الحي .. ومن هناك تطل
وتري كل شيئ تحتك الطرقات والبيوت وحتي الناس وهي متحركة خصوصاً شارع شفشفيت والذي
كان عامراً بالمشاة قادمين من منطقة جوفة أو بقو أو أدربة وهي أحياء طرفية تقع
بضواحي المدينة وكان طريق شفشفيت طريقهم الأقرب الي وسط المدينة وكثيراً ما كانت
تجري المعاملات التجارية في الطريق وهم لم يصلوا بعد الي المدينة حيث تنتظرهم
الناس في الطرقات لشراء الأغراض .. منهم من يأتي بالدجاج للبيع ومنهم من تراه
سائقاً نعجة أوسخلاً وأحيانا يجرهم جرْ ومنهم من تراه حاملاً سلةٍ من الخضار للبيع
.. نجلس في الخلوة واللوح في أيدينا وعيوننا تحملق في البعد غائصة في عالم شارع
شفشفيت "السوق المتحرك" تتفاعل مع أحداثة ولا يعيدك منها الا صوت شيخ
محمد عمر الجهور "يلا يا ولد .. لوحك رأي .. يلا قرأ" أي أنظر الي لوحك وأقرأ
وهو يدري ما يثير انتباهنا ويجذب أهتمامنا .. شارع شفشفيت كان عالماً لحاله مثيراً
للانتباه .. كان رواده في الصباح الباكر تملأهم العزيمة تشعر ذلك في مشياتهم
المتسارعة رغم الحمل الذي تئن منه أجسادهم .. كلٍ متطلع الي بيع ما يحمل لشراء ما
يبتغي ويحتاج .. أما رواد ما بعد الظهيرة هي نفسها تلك الوجوه التي شاهدتها في
الصباح وهي مثقلة بما اشترت من أغراضٍ وأمتعة .. أما رواد المساء أي قبل المغرب
فهم من نوغٍ وشاكلة مختلفة تماماً فهم أولئك الذين مروا بالصبح ولا يحملون شيئا
غير العصي والثوب المحمول علي الكتف .. يمرون في الصباح وتراهم أناسٍ عاديين لا
يختلفون من البقية في شيئ عدا أن ليس ليهم حمل ولا دابةٍ يبيعونها تراهم ينزلون
الي السوق في الصباح للبحث عن عملٍ وهم في العادة عمال يومية أما في المساء فهم في
حالةٍ أخري بعد أن احتسوا من الخمور البلدية (ميس وسوا) بما كسبوا من نهار عملهم
.. رغم الثمالة فأن وعيهم مدركً جيدا لوقت العودة الي المنزل والا فسوف يكون
مصيرهم الضرب والسجن عندما يحين وقت حظر التجول الذي كان وقتها الساعة السادسة
مساءاَ تراهم يتسارعون في العودة الي ديارهم .. بعضهم يغني وبعضهم يتحدث لوحده
وبعضهم يكاد يخبط الأرض من شدة فقدان التوازن لكن مع ذلك مدركون للوقت ومدركون
للوصول قبل خروج "الطور" الي الشوارع
..
كنا من خلوة الشيخ محمد عمر ومن تلك الربوة
العالية نتواصل مع ما يجري من حراك في شارع شفشيت ونري النساء يخرجن الي الشارع
ليشترين بعض احتياجاتهن من هؤلاء قبل أن يصلوا ببضاعتهم الي السوق .. هناك من تود
أن تشتري خضاراَ أو سمناَ وهكذا ونحن نتابع من الربوة وكل شيئ كان يجري بشكل
طبيعي الي أن أتي ذلك اليوم الذي رمي فيه
خالي الأصغر والذي هو بعمري رمي الشيخ بحجر بعض أن ضربه الشيخ بشكل مبرح ثم أطلق
العنان هاربا في اتجاه السوق وخلفه جريا أثنين من الكبار وأذكر موسي كان واحدا من
الأثنين .. انطلقوا خلفه للأتيان به لكن هيهات حيث كان أسرع منهم يسابق الريح لأنقاذ نفسه فأن قبض عليه تكون
الطامة الكبري لذلك فالسرعة بسرعتين الي أن وصل الي دكان الجد في السوق وهكذا انقذ
نفسه من عقاب مُحتم .. ثم رفض العودة الي خلوة الشيخ محمد عمر وبسسبب ذلك انتقلنا
أنا وهو الي خلوة كانت في ورشة "كراج" شركة ستاي للنقل في طريق المدرسة الثانوية
وحيث المشوار كان بعيدا من منازلنا مما أتاح لنا فرص للعب أكثر في طريق الذهاب
والعودة لكني كنت غير مرتاحٍ لهذا التغير .. لقد افتقدت عالم شارع شفشفيت وما كان
يعني ذلك لي من العيش مع المارة من علي الربوة .. كان ذلك الجو يجعلني أعيش معهم
.. أتسارع مع خطاهم وهم يسرعون المشي في الصباح .. أئن لثقلهم وهم يحملون أغراضهم
للسوق .. أفرح عندما يبيعون ويحسبون في الفلوس فقد تخلصوا من الحمل ولو الي حين ..لقد
أفتقدت ذلك الجو وأفتقدت الأفق من تحتي أري الحي وحركة سكانه .. الأن نحن في كراج
مقلق لا تري فيه الا ذلك البص القديم الذي أحضر للصيانة لكنه ربما لا يصلح حتي
للصيانة فتًرك في الكراج الي أن يقرر في مصيره