Thursday, December 31, 2015

عام 2016 يا عام يا جديد


ها هي الأيام تدور والسنين تمر ونحن كأننا جُلُوسْ نستمتع بتفرج مرور الوقت بل نحتفل لتوديع عام وإستقبال أخر .. وكأن الرحلة الزمنية متعة نتنزه في مروج السنين وهي تتوالي .. نعد فيها .. عام مضي وعام قادم ثم عام يتلوه .. شريط الأيام كأنه فلم يمر نتدارك أنفاسنا أحيانا من فظاعته .. ها نحن نطوي عام 2015 بكلما إحتوي من مأسي وأحزان ولم يختلف عن العام السابق علي منطقتنا .. أوجاع في الجسد وجروح يصعب إندمالها بل جروح وشروخ زادت إتساعا وعجزت الأطباء عن إيتاء دواء لها .. يا عام يا جديد يا متجدد عدت علينا قادما من أي باب .. باب المعاناة وإزدياد الهموم أم باب الحلول وإنفراج الهموم .. سنين مضت وما زال باب الهموم هو المفتوح وما زالت السنين عبره تأتينا .. سنين مضت ومازال لهيب الهموم لم ينطفئ فينا .. سنين مضت والهموم والمعاناة قد دخلت شَبِعَت وترعرت فينا فكبرت وشِخْنَا وشاخَتْ هي فينا .. سنين مضت ونظن المعاناة تغادرنا يوما لكنها إستمرأت وإستوطنت فينا .. سنين مضت والمعاناة صارت هويتنا ورمز الحال فينا .. سنين مضت وسنين أخري عبر نفس الباب تأتينا .. سنين مضت وسنين أخري تحمل التشرذم والتبعثر والشتات والدوي والأنين .. سنين مضت وما زالت رمال الصحراء تقبر الرفات والعظام وكل ما تبقا فينا .. سنين مضت وما زالت المراكب تمخر عباب البحار تحمل الأجساد والأرواح قوتاً فتقتات الحيتان فينا .. مازالت السنين تمضي والحيتان تطلب المزيد والمراكب لم تتوقف تجلب فينا .. لا تمييز بين كهل وإمرأة ويافعاً جنيناً .. تجلب المزيد والمزيد يمضي لقاعٍ يأوينا .. لقاع تدفن فيه أحلامنا وتنبت فيه أحزاننا .. لقاع تتبعثر فيه أشلاؤنا وتسكن فيه زواتنا .. الفيافي الصحاري والبحار تحصد المزيد والمزيد من شبابنا .. هامت بهم الدنيا وضاقت بهم أوطانهم رغم سعتها .. هامت بهم الدنيا فصاروا حصادا للرمال وقاع البحار ..
يا عام يا جديد لقد تحطمت الأوطان وتصدعت البلدان وإزداد الشتات وتبعثر الأنسان وصار أشلاءاً وعم الخراب الديار فهلا حملت بَلْسَماً يداوينا .. هلا حملت دواءٍ لمأسينا .. هلا وهلا .. ننتظر مئات من الأيام نحلم بعام جديدٍ يأتينا .. بعام جدبد يشرق بصبحه فينا .. بعام جديدٍ يمسح دموع اليتامي ويوقف شلالات الدماء والدمار الذي عم والخراب الذي إستوطن وشمل كل مفاصل الحياة في حَضَرِنَا وروابينا .. يا عامٍ يا جديد ربوعنا صارت خرابا وعمارنا صار حطاما وترابا .. مدننا صارت أطلالاً واطفالنا صارت تلعب في بساتين اليأس وتقتات من حدائق الدمار والحياة صارت كابوساً تملأ دخانه السماء .. يا عام يا جديد هاهي ديارنا لا تميز طرقاتها بل لم يتبقي فيها طرقات  والأشلاء مبعثرةٍ تمنع الحلم من الخروج بل حتي من التكون قبل الخروج .. الحياة تخاف علي نفسها فغادرت بلداننا وتركت أوطاننا .. هاجرت وغادرت بل حتي الحياة لجأت لديار جديدة .. لاوطان جديدة .. لفضاء جديد حيث الحلم يستطيع التكون والخروج .. حيث الشمس تبزغ من جديد لتصبح يوم جديد ويصبح النهار ذو مزاقٍ وطعمٍ جديد ولا يصبح اليوم كيومنا هذا تليد .. حيث يستطيع الطفل أن يحلم ويلعب ويتهادي في المروج .. لقد كرهت الحياة ما رأت وشاهدت في أوطاننا فغادرت وهاجرت وقالت لا أقيم في أوطانٍ لا حلم فيه للصغار ولا سلام ولا أمان للكبار.. قالت الحياة لا أقيم في بلدانٍ لا يحبونني بل يسعون لِوَأْدِي وطمسي .. لوأدي وإسكاتي .. لوأدي وإخراص حسي .. غادرتنا الحياة وصرنا بلا حياة واسألوا الصحاري وقيعان البحار فهي تجيب.
يا عام يا جديد ويا متجدد .. هل آن الاوان لان نسترد الحياة فيك .. هل آن الأوان للأطفال أن تحلم فيك ولأن تسرح وتلعب فيك .. هل آن الاوان للحياة أن تعود وتستقر من جديد .. هل آن الأوان لأندمال جروحنا .. هل آن الاوان لمسح أحزاننا وعودة البسمة والفرحة الي وجوه الأمهات وهم يرون أطفالهم يمرحون ويسرحون ويلعبون .. هل آن الاوان أن يكون للأطفال قلم ودفتر وليس في كل ممر سلاح وعسكر...متاريس ومخفر .. هل آن الاوان أن يكون للأطفال حلم يكبر ويكبر.. أطفال في اليمن أطفال في ليبيا في العراق وفي سوريا والمشهد واحد لا يتغير.. والمشهد واحدٌ فقد تحجر .. يا عام يا جديد نود حلما لا يتكسر .. لا صواريخ ولا قنابل ولا تدمير ولا عسكر .. نود أن تعود المراعي كما كانت ولا قذائف ولا براميل من السماء تمطر .. نود للحلم أن يكبر ويظل ينمو ويكبر ..
كل عام جديد وأحلام أطفالنا في القرن الأفريقي والشرق الأوسط بالامان والسلام والأستقرار تتحقق .. كل عام جديد والحياة تعود من جديد .. ويعود القلم والدفتر وتختفي من الأحياء جموع العسكر ويعود للروابي لونها الاخضر ويحلم الأطفال ويقولوا عندما نكبر لن نسمح ان تَحْكُمَنا العسكر .. بل القانون وللقانون محضر ومخفر .. بل القانون وللقانون قوة لا تقهر .. بل القانون والقانون تحميه جموع البشر..  

Wednesday, May 13, 2015

الحلقة الأخيرة


 

عبرنا الحدود ووصلنا الي كسلا وبعد ذلك نحت الأمور الي مناحي عدة .. لقد ذهبت الي الخرطوم مواصلا تعليمي وأنا متذكراً وصايا الشهيد إدريس عمر الذي حمل الناعي خبر استشهاده وهو يؤدي المهمة التي أحبها وصرح بها وهي التحامه بالمواطنين والعمل من أجل رفع المعاناة والظلم عنهم لقد استشهد وهو يحضر للمؤتمر الوطني الثاني يقود اجتماعات للمواطنين ويتم اختيار الممثلين عنهم للمؤتمر وكذلك من وحدات جيش التحرير كان يتابع أعماله من منطقة الي أخري وكان هو ورفاقه يعملون تحت ظروف طبيعية قاصية وهو الدؤوب الصامد لا يود أي تأخير في مهمته والأمطار كانت كثيفة والوديان ممتلئة فائضة وكان ما كان حيث استشهد مجروفاً بقوة السيول العارمة وفقدنا وفقدت فيه أرتريا مقاتلاً جسوراً ومثقفاً مستنيراً ومناضلاً أحب شعبه وبذل كل غالٍ ونفيس من أجله .. كان حلمه لشعبه كبيراً وكان يعلم أن ذلك يتطلب نضالا مريرا .. كان ذا بعد نظر ولا ينظر لصغائر الأشياء والأمور كان ذو عينٍ ثاقبة وبصيرةٍ حاضرة تستشفها في فكره في حديثه وفي تصرفاته كان يؤاثر نفسه دون رفاقه وهو الذي انبرا في دبر سالا للأصلة التي كادت تقتل الشهيد حسن باشميل وقتلها وكان ذلك قبل وصولي للمعسكر وكان ذلك بشهادة وتوثيق المناضل فرج علي نور أطال الله في عمره ومد في صحته .. وبذكر دبر سالا والعيادة المركزية نذكر الشهيد المرحوم أبوبكر حاج علي "أبوقبورة" مسؤول العيادة المركزية في ذلك الوقت وهو الذي كان يَردُ ذكر أسمه ب "ود حاج علي" لقد ورد ذكره مراراً وهو المناضل المرح الذي أكسبه مرحه ذلك اللقب "أبو قبورة" ونعلم أن اللقب كان لملك المرح والفكاهة في السودان وقتها وكان ملك زمانه في المرح والفكاهة. أبوبكر كان من جيل الشهيد إدريس ومن نفس المدرسة ومن نفس عصارة الفكر والتفاني والوطنية والإخلاص أتذكره وهو يلاطف مرضاه ويروح عنهم وكان محبوباً كثيرا .. العيادة المركزية تحت قيادته كانت جسدا واحداً وقالبا ومصيراً واحداً .. أبوبكر حاج علي هو الأخ الأكبر للأخ محمود حاج علي بالأمارات وحامد حاج علي والدكتور كمال حاج علي بأستراليا وبقية الأخوة والأخوات من أسرة حاج علي الممتدة .. أما كداني الذي كان لأبوبكر حاج علي دور أساسي في ارساله الي كسلا للعلاج من الرعاف المزمن لم يقم في كسلا الأ وقتاً قصيراً حيث غادرها الي الخرطوم وكان يقيم في بيت الجنود في الديم حيث قابلته لاحقاً هناك عندما سمعت بخبر مجيئه وكان قد تغير كثيراً في طرحه وفي تناوله للأشياء وقد شممت رائحة التمرد فيه .. لم يعد ذلك الذي كنت أعرفه .. لقد صار يحكي لي عن الرجعية وسيطرتها علي قيادة الجبهة كما صار يحكي لي عن اغتيالات لم أسمع عنها من قبل .. لقد فهمتُ بأنه لا ينوي العودة الي الميدان رغم أنه كان يقيم في بيت الجنود وكانت علاقاته متوترة مع بقية المقيمين في البيت الذي كنت أزوره وأتردد عليه كثيرا .. لقد سافر كداني الي ألمانيا ولم أسمع عنه بعدها .. أما صديقي العزيز صباح الخير فمهمته كانت تقتضي مرافقة كداني الي كسلا ليتم علاجه فيها وعلي ضوء حالته الصحية اما أن ينتظره ويعودا سويا الي الميدان ان كان ذلك ما يراه الطبيب أو يتركه ويعود ان كانت حالته تقتضي بأن يتركه .. لقد اشتم صباح الخير قبلي نفس رائحة التمرد فيه دون أن يعلنها حيث كان يماطل في العودة ويتعذر بأعراض لم يكن يشكي منها عرف صباح الخير ذلك فتركه وعاد الي الميدان .. وعلي ذكر صباح الخير الذي حمل الناعي ذكر وفاته قبل خمسة أعوام تقريباً كان اسمه الحقيقي صالح علي شيخ ومن كثرة ترديده لصباح الخير فقد طغي ذلك اللقب علي اسمه الحقيقي .. لم أكن أعلم أسمه الحقيقي الا لاحقاً عندما أخبرني بذلك المناضل المخضرم حسن صالح (حسنيت) مد الله في صحته وأطال الله في عمره وهو الذي قامت العيادة المركزية علي أكتافه كمسؤول للجهاز الصحي ورفاقه الشهيد حسن باشميل والشهيد ادريس عمر .. باشميل كان في العيادة المركزية بدبر سالا والتي غادرها الي أكلوقزاي قبل وصولي بقليل ولم نلتقي خلال فترة تواجدي بالجبل ولاحقاً وخلال نفس العام حمل الناعي خبر استشهاده في اكلوقزاي .. لقد كان حسن من نفس مدرسة الشهيد إدريس عمر .. لقد كانوا كوكبة من الشباب طموحاتهم الوطنية لا حدود لها فحدودها السماء علواً .. فدوا الوطن وهم في ريعان شبابهم غادروها دون أن يتركوا لا مال ولا بنين لكن تركوا ارثاً وفخراً تتوارثه الأجيال من بعدهم تركوا ارث الفداء من أجل الحرية .. تركو ارث الفداء من أجل وطنٍ أمنوا باستقلاله وكرامته شعبه .. تركوا ارث التضحية من أجل كرامةٍ دُنستْ وحقٍ استباحه الطغاة .. ألهمونا معاني الفداء واستشهدوا لتنال أرتريا لاحقاُ استقلالها ولم يتأتى ذلك الا من خلال تراكمات تلك الجهود من مختلف الأطراف والأطياف وكل مكونات الشعب .. لقد استشهدوا في نفس العام وهم الاصحاب والرفاق في الدرب والمبدأ والمصير .. سوف تظل ذكراهم عالقة في خلد هذا الشعب الأبي.. إدريس عمر هو الشقيق الأكبر للدكتور محمد خير عمر الذي يحمل نفس المشعل الوطني نضالاً وتفانياً وحباً لشعبه ووطنه له التحية والأجلال والتقدير .. تحدثنا عن الكوكبة الشامخة التي كست دبرسالا وعلت سماء نضالاته أما العيادة المركزية نفسها فقد كان ما كان من أمرها حيث خرجت قوات العدو من كرن ومن أغردات مدججة ومهيأة بكل العدة والعتاد في سبيل الوصول الي العيادة المركزية والتحمت معها قوات من جيش التحرير حيث استطاعت من إعاقة وصولهم الي العيادة وخلال ذلك تم نقل المرضي والجرحى الي بركا وهكذا غادرت العيادة دبر سالا نهائيا الي هواشيت وتركت الجبهة الجبل لقرب المكان من المدن الكبرى وانقطعت عني أخبار الجبل منذ ذلك الوقت والذي ربما تكون قد تكاثرت فيه الحيوانات البرية لدرجة كبيرة .. لقد ألتقيت بالمناضل سليمان محمد ابن النهود بعد عام من لقائنا في الجبل .. التقيته بكسلا عندما كان في إجازة وكانتْ المدينة حينها تعج بالشباب المتدفق عبر الحدود من المدن مباشرة أو من اللذين لم تستوعبهم الجبهات فعبروا الحدود الي كسلا .. عام 1975 كان عام فيضان الشباب من المدن فمنهم من  التحق بالميدان ومنهم من عبر الحدود الي السودان ثم منها مواصلاً الي البلدان المجاورة .. التقيت بسليمان وجلسنا في المقهى ذو الشجرة الظليلة نحتسي الشاي ويحكي لي عن الأحداث المتسارعة خلال ذلك العام وكيف ان العدو خرج محاولا الوصول الي العيادة وكيف انهم استطاعوا أجلاء كل الجرحى والمرضي دون أن يصيبهم شيء الي هواشيت في بركا وعن الرفاق وعن التغيرات .. يحكي لي عن كل التطورات التي حدثت بعدي وكيف أنه قد تم توجيهه من سرية الحراسة الي وحدات الجيش كقائد فصيلة وأنه ما زال في بركا الا أنه لا يدري ان كان سوف يواصل بنفس الوحدة أم يتم توجيهه الي وحدة أخري .. افترقنا ومنذ ذلك الزمان انقطعت عني أخباره .. حيث تسارعت الأحداث وفاضت المجاري بالمياه وتغيرت الأمور وسوف يظل دبر سالا ذلك الجبل الشامخ منارة للصمود والفداء .. سوف يظل رمزاً عالياً يناطح السماء .. سوف يظل قمةً تربو النفوس اليه باعتزازٍ وفخرٍ واباء .. سوف يظل ذلك الأبيُ المخضب بالدماء .. وسوف تظل الأجيال تذكره محراباً للتضحية والوفاء .. دبر سالا لن أكفيك وصفاً وان سَكًبتُ فيكَ المداد ماءٍ وماء ..
 

بقلم/محمد عيسي
Dallas TX, USA

 

Wednesday, May 6, 2015

وَدْ دَايِرْ الرفيق في الطريق


عادت الأمور الى نصابها والمياه الى مجاريها .. صار كل شيئٍ واضحا .. رغم أننا لم نلحق بالمجموعة الا اننا علمنا كل التفاصيل عنهم، عددهم ووجهتهم لذا صار هذا الموضوع لا يغُضُ من مضاجعنا ولا يعكر صفو الود بيننا وكل ما أحيط به من إختلاف في وجهات النظر صار من الماضي عادت للنفوس صفوتها وعدنا كما كنا نسير سَوِيًّا لا سابق ولا مسبوق ولا تارك ولا متروك نسير سوياً ونتجاذب أطراف الحديث تارةً في السياسة وتارةٍ أخري في أمور الحياة بشكلها الأوسع والأشمل هكذا من قرية لأخري نعبر تلالٍ وديانٍ وفيافي .. نعبر ونسير ولا ينتهي المسير .. نعبر ونسير ويطول خط المسير .. نعبر ونسير ومازال المتبقي كثير وكثير .. نطوي المسافات ونسير وكأننا قد بدأنا المسير .. وكل شيئ رتيب ومتكرر نستطيع معه توقع التالي من الأشياء كل شيئ كان كذلك الى أن تغير في ذلك الفجر ونحن مازلنا بعد في تلك القرية لم نغادرها ونسمع كبقية أهل القرية ما نسمع من نباح الكلاب وهي تنبه لقدوم شخصٍ ما .. أسرعنا لأخذ الحوطة وتمترسنا خلف شجيراتٍ حتي نعلم وندري عن القادمين .. أَهُمْ من المواطنين أم من الجبهة أم من جهةٍ أخري .. ازداد نباح الكلاب وصار أكثر حدةٍ ومن خلف الشجيرات التي اتخذناها كحواجز وسواتر يتضح لنا من البعد شخصان يبدوان بزي عسكري .. وكلما اقتربا إزداد نباح الكلاب حدةً ونري أحد المواطنين يخرج اليهم ويتحدث معهم ثم يشير بيده نحونا وعندها عرفنا بأنهم من الجبهة وخرجنا من خلف الشجيرات وهاهم قادمون نحونا وكلما اقتربوا بانت لي ملامح أحدهم وأسمع صباح الخير يقول "اهلين وسهلين ود داير.. ود داير مطى" ويقترب محمد عثمان داير وزميله الذى لا أذكر إسمه كانوا أيضاً ذاهبون الى كسلا وكانت وجهتنا واحدة وها هي المرة الأولي التي نتقابل فيها مع مناضلين من الجبهة منذ تركنا همبول حيث كان لقائي الأخير مع الشهيد إدريس عمر وكذلك الشهيد حليب ستي .. لقد فرحنا كثيراً بلقياهم وخصوصاً لأننا سوف نشترك في نفس الطريق فوجهتنا واحدة .. قالوا بأنهم منذ يومين وهم يتعقبون في خطانا ولقد صار لهم ما صار لنا مع مجموعة عبدالله إدريس ونحن نتعقب في خطاهم ولم نتمكن من لقياهم البتة لكن ها نحن وجدنا مجموعةٍ أخرى تشاطرنا هموم الطريق وتقلل من أتعابنا ومصاعبه علينا وخصوصاً ود داير المناضل القديم ذو التجارب والخبرات الميدانية العريقة الرجل المرح وخفيف الظل .. تقاسمنا مع ود داير لثلاثة أيامٍ تاليات الماء والكلأ وكذلك أحياناً "الجبنة" .. قاسمنا كثيراً من تجاربه وخبراته وحكاياته الجميلة اذكر منها عندما قال كنت في سفرية للخرطوم وكنت مقيماً بأمدزمان مع ود خالد وهو الخال إدريس وفي صبيحة احدي الأيام ودون مقدمات ونحن مازلنا على الأسِرَة نائمين وإذا بالذخيرة تمطر ناراً والأسلحة من كل الأحجام تملأ الفضاء والعويل والصراخ والهرج والمرج من كل إتجاه .. صباحا وليس كمثل أي صباح قال كان مرعبا وتحس بأن الذخيرة تتساقط بالقرب منك والأدهى والأمر لا تري شيئا من داخل البيوت وتسمع العويل والصراخ في الخارج ومن شدة الحدة والتداخل لا تعرف مصدره قال ونحن الذين تعودنا علي السلاح وصوت الذخيرة الأ انه كان من نوع أخر داخل البيوت ساعات رعبٍ لا تري فيها شيئ قال تمنيتُ الاستشهاد في الميدان ولا الموت في أحياء أمدرمان .. وأنا القادم لتوي من الميدان فمِنْ نارٍ الى نار ومن حرب الى أخري في وسط الأحياء ووسط البيوت .. قال لقد أخِذْنا في حين غرة والناس نيام والكل يصحى على صوت وصدي البارود وتخيل في وسط البيوت مع النساء والأطفال ولا تدرى المصدر ولا الاتجاه ولا الأطراف المتحاربة فقط ذخيرة صوتها يجلجل المكان ويسلب الألباب ولقد بلغت القلوب الحناجر ... قال طلبت من الجميع عدم الحراك والانبساط على الأرض حتى لا يكونوا عرضةً للطائش من الذخائر وحتى تخف حدة الأسلحة ويتضح الأمر .. قال تواصل الحال كذلك لحوالي الساعتين وبعدها صار متقطعاً وبكثافة أقل وكذلك تدريجياً حتى توقف لكن الأصوات في الشوارع والطرقات صارت في ازدياد وحركة الناس التي تود أن تعرف ما جرى وما يجري .. قال مثل بقية الناس خرجنا نستطلع وأول سؤال يُطرح اليك " يا ناس إنتو بخير" قال الكل يسأل الكل نفس السؤال والناس تطمئن على بعضها البعض وهكذا عادة الناس الطيبين ويبدو ان الجيران بخير وليس بينهم إصابات لكن كثير من أثار  الشظايا في الجدران .. لقد كانت معركة الأنصار مع جيوش النميري في حي ودنوباوي بأمدرمان وذلك فيما يعرف بأحداث الجزيرة أبا وودنوباوي .. قال أطال الله في العمر ولم يُصب احد من حوله بأذي ما عدا الترويع والخوف .. قصص ود داير أعطت لما تبقى من مسيرتنا طعماً ومذاقاً خاصاً لقد كان مكتبة من المعلومات يحبب اليك السرد بصوته الخافت واسلوبه الجميل .. كان محمد عثمان داير في طريقه الى كسلا وكذلك كنا نحن ومنذ أن التقينا به نزل عن كاهلنا هَمْ الطريق فقد كان يدري كل التفاصيل والمنعرجات ولم نضطر على سؤال المواطنين وأكثر من ذلك كان يذكر أسماء القرى التي سوف نمر بها في طريقنا .. كان مرحًا يمازح كداني من حينٍ لأخر مكنياً له بأبو حجاب ولم يكن كداني يرفضها أو يغتاظ منها بل العكس تماماً حيث كانت تضحكه وأحيانا يقول "إزي بروخ سبأي، أي ذلك الرجل المبارك يعني المواطن الذي صنع له الحجاب "التعويذة" .. وعندما إقتربنا من الحدود قال ود داير علينا بدفن الأسلحة .. لم يكن معنا كثير من السلاح فنحن كان بحوزتنا قنبلتان ومسدس مع ود داير وقنبلة أخرى مع زميله .. قال نحتاج  الى مشمعات وهي التي كنا نستخدمها لنفترشها على الأرض لنرقد عليها ..قال سوف لن نحتاجها لاحقاً نستخدمها لحفظ الأسلحة قبل دفنها وتكون هي كذلك محفوظة للاستخدام في المرة القادمة .. لقد إبتعد الثلاثة ود داير وزميله وكذلك صباح الخير كلٍ في إتجاه وكلٍ يبحث عن علامة تميز الموقع وقاموا بدفن الأسلحة جيداً وهكذا صرنا كلنا "كولي" يعني مجردين من الأسلحة .. كانت تتم هذه العملية دائما عند الذهاب الي كسلا وعند العودة يتم العكس تماماً .. كنا محظوظين بأن صادفنا في الطريق ود داير حيث كثير من التفاصيل خصوصاً عند الحدود كانت سوف تتعبنا لكن وجوده بيننا بدد عنا تلك العقبات لقد قادنا الى طريق السيارات العام والذي تسلكه السيارات الذاهبة والقادمة من كسلا .. وهناك جلسنا ننتظر لوقتٍ طويل حتى لاح غبار في الأفق عرفنا انه ما كنا نبغي وننتظر "لوري" شاحنة تئن مما عليها من حملٍ توقف لنا السائق وعرف من مظهرنا عن هويتنا وطلب من مساعده أن يعطينا ماءاً وبلح .. لقد أكرمنا بما عنده ونحن ممنونين لذلك بل ذاد على ذلك رفضه أخذ الأجرة قائلاً "انتم على عيني وراسي" ثم انطلق بنا ويا للمفارقة بين البحث عن جملٍ والبحث عن سيارة هواجس وأحاسيس انتابتني وأنا في الشاحنة ..ومن على البعد هاهي جبال التاكا ومكرام وقد بدت وكأنّها كتلةٍ صخرية وكلما اقتربنا بدأت التفاصيل تتضح اكثر فأكثر وصارت تقاطيع توتيل بارزة للعيان .. وها قد وصلنا لرحلة جديدة للحياة.


 


ونواصل في الحلقة القادمة والأخيرة من دبرسالا ....... 


 

Wednesday, April 29, 2015

عبد الله ادريس ولقاء لم يتم




انقطع الرعاف نهائيًا عن كداني وصرنا لا نحتاج الي جملٍ يمتطيه او ناقة .. لقد استرحنا من متاعب البحث عن جملٍ في كل قرية كنا نحل بها .. ولقد كانت تواجهنا أحياناً مصاعب كبيرة في الحصول عليه .. فالمواطن في بركا يعتمد علي الجمل في كل شيئ .. النياق تسرح مع الرعاة اما الجمال فهي التي تعين الرجل في كل شيئ تقريباً مع تنوع المهن تتنوع مساعدة الجمل للرجل وكما كان دور الجمل أساسيا في الثورة الإرترية كذلك دور الجمل كان مركزيا ومحورياً في رفد حياة المواطن في الريف وبدون الجمل علينا أن نتخيل حياة إنسان المدنية في الوقت الراهن دون سيارة .. والصعوبة كانت تكمن لحوجة المواطن المستمرة للجمل .. ان قدوم  المواطن رفقة جمله معنا كان يعطل مصالح وأعمال المواطن في قريته رغم ذلك كثيريين منهم أعانوننا وذهبوا معنا لمسافات بعيدة .. ان دور إنسان الريف في دعم الثورة والوقوف معها كان بلا حدود .. فكم من مرة تُوقظُ فيها نسوةِ الريف وأحياناً في وقت متأخر من الليل لتعد الطعام للمقاتلين ولا أعتقد أن تكون هناك قرية لم تجهز النساء فيها الأكل للمقاتلين بل ربما كان يحدث في بعض القري مراراً وتكراراً  وكل ذلك من أجلك ياوطني .. لقد استمر الحال كذلك حتى سنين لاحقة حيث بدأت الجبهة تستخدم السيارات وتآتي بمؤنها الخاصة وقلٓ لدرجة كبيرة الأعتماد علي المواطنين في المؤن وتجهيز الطعام الا في حالاتٍ خاصة .. وعودة الي كداني وتحسن حالته الصحية والتي إنعكستْ ايجاباً علي حالته المعنوية وأيضاً انعكس ذلك علينا بشكلٍ واضح في سَيرنا المتواصل دون قيود ودون وضع إعتبارات غير إعتبارات الطريق فصرنا نمشي بهمة وهمنا الوحيد أن لا نتوه في الطريق لهذا كنا نسأل دائما كل من يقابلنا في الطريق وكذلك كنا نقتفي أثر المشاة من قبلنا في الطريق .. وفي مرة من المرات ونحن نقتفي بالأثر ونواصل في تتبعه حتى نزلنا في وادٍ صغير وجدنا فيه ثعباناً مقتولاً لتوه .. أخذ صباح الخير يقلب فيه ولاحظ وجود شريطين أسودين بالرقبة وقال "أبو حِناقتْ تو" أي ان نوع الثعبان هو أبو حِناقتْ وهو نوع من الثعابين السامة والتي تقتات عل الفئران وطوله يكون متراً أو يتجاوزه قليلاً .. نظرنا في ما حولنا وكانت آثار الأحذية في المكان باينة للعيان .. قال كداني هذه احذية للجبهة وليست للمواطنين وهي من نوع "الشدة " أي الصندل البلاستيكي وهذه كانت نقطة لا تقبل الجدال واضحة وضوح الشمس جعلتنا نحكي عن المقاسات والأحجام .. إستنتاجنا هو إن هناك مجموعة من المقاتلين  أمامنا ولا يسبقوننا الا قليلاً وهم اللذين قتلوا الثعبان وعددهم قليل .. قلنا فلنلحق بهم ونشاركهم الطريق إن كان الأتجاه واحداً وبدأنا نزيد في سرعتنا لعلنا نلحق بهم .. السهول على امتداد البصر لكن رغم ذلك لا نراهم عدا اقتفاء الأثر .. نواصل في المسير وبنفس الوتيرة للإلحاق بهم وكلما نسير ونسير ولا نلحق بهم نجد الكثير من المبررات التي تعلل عدم اللحاق بهم وهكذا كنا نجد دافعاً جديدا لكي نسرع ونحن الذين لا حمولة لنا ولا أثقال .. خفافٍ كهذا السراب الذي نطارد .. خفافٍ كهذا الأفق الواسع والفضاء الشاسع الذي نحن فيه ..خفافٍ تحملنا افكارنا وليست أرجلنا .. خفافٍ نسير على إستنتاجاتنا وليس على أقدامنا ..خفافٍ تحلق بنا الرغبة في اللقيا وفي أن نكون أكبر وأكثر .. نسير ونسير ولا ينتهي المسير ولا نري لهم حتى طيفاً من بعيد .. لقد أخذ منا الأعياء كل مأخذ ولا قرية  امامنا ولا رفاق . سهولٍ وحصاً وتراب .. لا خيار الا المتابعة حتى نصل الي قرية وهكذا فعلنا فقد تحملنا الأعياء والارهاق حتى وصلنا الى قريةٍ صغيرة ذات خيامٍ من السعف وحللنا بالقرب منها .. خرج الينا شيخا كبيراً في السن وبعد تبادل التحايا أخبرنا بأن مجموعة صغيرة من جنود الجبهة كانت عندهم ولقد غادرو المكان بعد ان قضو فيه وقتاً من الراحة .. عرفنا أنها نفس المجموعة التي قتلت الثعبان والتي كنا نقتفي أثرهم لكن هذا أول تأكيد على صحة ما وصلنا اليه من استنتاج سألنا الشيخ بل أمطرنا الشيخ بوابل من الأسئلة نود أن نعرف عنهم كل شيئ لكن معلومات الشيخ كانت قليلة وكان منطقيا حين قال تمر الجبهة من عندنا كثيراً لكن لا نحن نسألهم عن أسمائهم ولا هم يعرفوننا بأنفسهم أو أقسامهم نعرفهم فقط ب "جبهة حرير" وعلي سبيل المثال ها هؤلاء أنتم هل أخبرتمونا بأسمائكم أو أقسامكم سأل الشيخ .. لقد أُحْرِجْناَ أمام صراحة الشيخ ووضوح كلامه وكان صادقاً حيث عادةً لا تُعطي الاسماء ولا الاقسام وأعتقد بأن ذلك كان نابعاً من التحوط الامني طبعاً ذلك لا ينطبق على من يعملون بالقرب من المدن او يعملون وسط الجماهير .. كان الشيخ بسيطاً وواضحاً وصريحاً وباختصار فان هذه الخصال في مجملها هي خصال اهل بركا عموماً .. كنا متعبين فرأينا أن نأخذ قسطاً من الراحة قبل أن نواصل في المشوار .. وفي العصر وبعد ان أخذنا ما يكفي من الراحة تساءل كداني إن كان من الضروري ملاحقة الوحدة الصغيرة التي امامنا وماذا سوف يفيدنا الجري واللهث وراءهم ونحن لا ندري وجهتهم ولا طبيعة مهمتهم .. طرح كداني ذلك كمجرد تساؤل ووجهة نظر وبدأ صباح الخير يرد عليه عن أهمية ذلك من كل الجوانب وخصوصاً بالنسبة للمواطنين فلا يجب إن أمكن أن نأتيهم في شكل جماعات بل من الأفضل أن نأتيهم كمجموعةٍ واحدة فلا نثقل ولا نقسو عليهم وهم الذين يقومون باطعامنا واسقائنا.. لم يبدو كداني مقتنعا بما قاله صباح الخير وصارت المناقشة تطول وعندها اقترحت عليهم بأن نتحرك وننطلق في المسير واثناء ذلك نواصل في النقاش .. وافقا على ذلك وهكذا انطلقنا من القرية بعد أن سألنا الشيخ عن الإتجاه الصحيح لوجهتنا .. سرنا والنقاش بين الرفيقين علي أشده فمحور حديث كداني يتركز علي أن لا شيئ نجنيه من اللحاق بهم غير مقابلتهم والتعرف عليهم بينما صباح الخير حديثه يرتكز في العبئ الاضافي الذي يتحمله المواطن في استقبال كلي المجموعتين في أوقات مختلفة عوضاً عن المجيئ سوياً خصوصاً ونحن نسير في نفس الاتجاه كما أنه يعطينا فرصة التعرف على رفاق لنا نناضل من أجل هدفٍ مشترك .. كنت أميل لحديث صباح الخير من دون ابراز أي تعصب وكنت أري نفس الجوانب والأعتبارات في اللحاق بهم دون أن نكلف انفسنا عناء اللهث خلفهم وعندما رأى كداني أن موقفي يميل لرأي صباح الخير قال اذاً لي شرط واحد .. قلنا ما هو قال أن نعمل كل ما بوسعنا في أن نلحق بهم هذا المساء وان لم نتمكن من ذلك فعلينا أن ننسى كلياً الموضوع ونسير بشكل عادى دون جلب متاعب لانفسنا .. إتفقنا جميعاً على ذلك وكان ذلك مبعث سرور وإعتزاز لنا وقد اعطانا ذلك دفعاً وطاقة جديدة لأن نسير بسرعة أكبر والشمس بدأت تدنو والشفق الجميل يغطي السماء امامنا .. عالم من الجمال تغوص فيه وتبحر فيه الي مراسي ومحطاتٍ لا تطأها الأقدام ... تبحر في غمامه المتناثر وسحبه المبعثرة تربط بينها لتصل الي عالمٍ لا يصله الا الخيال لتبتعد وتبتعد غوصاً فيه .. وقدماي في سباقٍ تلاحق خطوات صباح الخير الذي أطلق العنان لرجليه وصرنا أنا وكداني في صعوبة من أمرنا باللحاق به وليس اللحاق بالمجموعة التي أمامنا لقد وضَعَنا صباح الخير امام أمرٍ واقعٍ كان علينا مواكبته ومجاراته ربما أراد صباح الخير فعلِ كل شيئ من أجل اللحاق بالمجموعة التي أمامنا وذلك من خلال السرعة المفرطة التي صار يسير عليها .. حل الظلام ونحن مازلنا على نفس المنوال صباح الخير في المقدمة وأنا في الوسط أحياناً أرغب في مجارات صباح الخير وآحياناً أخري أتوقف حتي يلحق بي كداني وأطمئن بأن لا يكون قد بقي في الخلف لوحده وصرنا في وضعٍ لا نستطيع فيه محادثة صباح الخير الا ان أراد أن يتوقف وينتظرنا لنلحق به أما نحن الاثنين لا نستطيع التوقف بالمرٓة لأنه إن توقفنا زدنا في فارق المسافة بيننا وبينه .. وبدأ ألاعياء يدب ويتسلل في مفاصل أجسادنا ونحن حياري لا ندري ما العمل حيث لا نستطيع التوقف وأخذ قسطٍ من الراحة لأن القرار في ذلك كان يؤخذ بشكل جماعي والآن لم يترك لنا صباح الخير من خيارٍ الا اللحاق به ولحسن الحظ كان الجو منعشاً ومعيناً لنا علي المسير لمحاولة اللحاق به .. صرت أشجع كداني علي المسير حتي لا نتخلف ونكون في ضع يصعب معه باللحاق بصباح الخير .. وعند وصولنا الي تلٍ صغير لمحنا من البعد ناراً وكانت بمثابة أجمل ما يمكن أن نشاهده .. فهناك القرية وهناك ربما صباح الخير في انتظارنا وربما يكون قد لحق بالمجموعة التي كانت أمامنا .. قبسٍ من نارٍ كان مبعث الأمل وأعادة جزوة الحياة الينا وكالعادة شيئان كانا دائما مصدر فرحٍ ومبعث اطمئنانٍ لنا وهما نباح الكلب وقبسٍ من نار في عتمة الليل وسواده الحالك .. رأينا النار وكانت أجمل ما يمكن أن نراه وقتها .. أنطلقنا بثباتٍ نحوها وقد تبددت المتاعب وزال العياءُ .. عبرنا وادي صغير بالقرب من القرية وهناك نسمع صوت صباح الخير يصيح بأسمائنا ويطلب منا القدوم تجاهه .. وقد كان قد جلب الماء والنار وبدأ في عمل الشاي .. سألناه عن المجموعة التي كانت قبلنا والتي كان يسعي للحاق بها.. قال لقد كانوا في هذه القرية حيث استراحوا وقضوا جزءاً من الوقت بها وغادروها قبل مجيئه بقليل وقال بأن شاباً من القرية ذكر له بأنهم كانوا خمسة أفرادٍ وبهم عبد الله ادريس وقائد أخر لا يذكر اسمه وثلاثة من الحراس وأنهم كانوا علي عجلٍ من أمرهم .. وأضاف قائلاً أن الشاب هو جندي من الجبهة في اجازة مع أهله وقد أكمل اجازته وأنه سوف يغادر عائدا يوم غد الي وحداته وسوف يذهب في نفس الأتجاه الذي ذهبت فيه المجوعة وأن اتجاههم مختلف عن اتجاهنا وأنه لا يمكن أن نلتقي بهم اطلاقاً ..  كما أضاف بأنه ينوي كتابة رسالة قصيرة ويرسلها مع هذا الجندي  الشاب الي عبدالله ادريس للتحية وليحكي له كيف اننا كنا نطارد فيهم ونحاول جاهدين للحاق بهم من دون علمٍ مسبقٍ لهويتهم أو ادراكٍ لأي تفاصيلٍ عنهم .. قال سوف أضَمِنُ أسماءكم في الرسالة وسوف اتلوها لكم بمجرد أن أكملها .. وهكذا كان لقاء لم يتم حينها مع عبد الله ادريس وطوفه من المجوعة التي قتلت الثعبان في الطريق.

 

ونواصل .......      

 

 

 

Saturday, April 25, 2015

أسرار الحجاب


 

انتظرنا حتي صار الجو أقل حرارة وسخونة وانطلقنا ونحن في أفضل ما يمكن من معنويات وبالطبع تحسن الحالة الصحية لكداني ومألات ذلك علي الجميع كان واضحاً للعيان وربما كانت المرة الأولي التي نكون فيها دون ضغوطٍ أو قلق علي شيئ ما وحتي كداني صار يمازح المواطن صاحب الجمل وصار يستخدم القليل من مفردات التقرايت التي بحوزته .. وتسمع المواطن يضحك عليه عندما يؤنث المذكر ويذكر المؤنث وصارت خيوط الألفة والصداقة تتوطد بينه وبين المواطن وكان هذا يجعلنا أكثر ارتياحاً وانشراحاً .. نطوي المسافات علواً وهبوطاً وخيوط النهار في انسحاب تاركةً المجال للعتمة والظلام يسيطر رويداً رويداً والمواطن والحسال والعصي علي الكتف يقود في الجمل بكل هدوء وطمأنينة ونحن نسير خلفه لا نبالي لا بالمسافة ولا بالاتجاه فهذه الأشياء متروكة للمواطن ليأخذ همها عنا جو مختلف تماماً عن الأيامات الماضية وأتمني أن يكون كذلك في الأيامات القادمة .. كل شيئ كان يسير بشكل طبيعي حتي لاحظ كداني حركةٍ وضوءٍ من بعيد وهو علي ظهرِ الجمل توقفنا لنتأكد ونحن لا نحمل الكافي من السلاح كل ما عندنا هو قنبلتين يدويتين يعني وكما يقال "كولي" أي دون سلاح .. توقفنا واسترققنا السمع وقد ميز المواطن صوت بعير من الأصوات ولا نستطيع مع الظلام أن نري أي شيئ ما عدا الضوء ولا ندري مصدره ولا مصدر الحركة التي من الواضح أنها تقترب وتقترب وكان المواطن سباقاً في معرفة المصدر قائلاً "سَبْ بَرشوتْ تومْ يهو" أي انها قافلة التجار وقليلاً حتي كان كل شيئ بائن للعيان بأنها قافلة من الجمال يقودها مجموعة من التجار اللذين يجلبون الأغراض من كسلا .. رفع المواطن صوته عاليا "يهو سلامْ عليكمْ .. أٌكوبامْ وسلومامْ" أي السلام عليكم مخاطباً ومطمئناً أصحاب القافلة والظلام دامس كرر ذلك مرتين أو ثلاثة حتي سمعوهوا ثم ردوا السلام واقتربوا وشاهدونا وتبادلنا معهم التحايا .. لقد اضطربوا وتوتروا قليلاً لكن مبادرتنا لهم بالتحية طمأنتهم وأزالت اضطرابهم وبادلونا التحية سألونا ان كنا نحتاج أي عون أو مساعدة شكرناهم وتجاوزناهم وكلٍ سار في طريقه .. فهؤلاء البرشوتْ يسيرون دائما في الليل لخوفهم من كل شيئ علي تجارتهم وهم مستعدون للدفاع عنها مهما كلفهم ذلك وحياتهم دائماً في خطر لكنهم يقومون بالرحلة بين كسلا وأطراف كرن أو أغردات وكانوا يؤدون هذه المهنة حتي في اصعب الأيام خطورةً وأشدها صعوبة وكان دورهم فعالا في توفير السلع المطلوبة للسوق المحلية والكل كان يدري مدي خطورتها .. تجاوزناهم وانشرحت صدورنا حيث زال التوتر وعادت النفوس الي سابقتها من الانبساط والطمأنينة .. والمواطن يلوح بيده الي القرية لكن يشك في ان كان لهم جملٌ حيث القرية صغيرة جدا علي حسب قوله .. قلنا فالنصل في الأول ثم من بعد نقرر ما يمكن فعله .. قال ان القرية تتشكل من أسرة واحدة وجملهم معظم الوقت لا يكون بالقرية انهم جيرانهم لذا يعلموا أحوالهم جيداً .. عندما وصلنا وكالمعتاد نزلنا بالقرب من القرية وذهب المواطن لأخطارهم وإحضار الماء والنار وككل المواطنين قام بواجبه وعاد قائلاً "قدم ربي لحفظكم .. قِسْكٌو" ربنا يحفظكم فأني ذاهب وشكرناه كثيرًا خصوصاً كداني ظل يردد "شكراً يبا .. شكراً يبا" مشكور يا أبتي مشكور يا أبتي .. وأختفي المواطن مع جمله قافلاً وعائداً الي قريته .. جلسنا الثلاثة نتسامر قبل أن يأخذنا النوم ولا نود أن نأتي بسيرة الرعاف لكداني كما هو لم يأتي بالسيرة أيضاً وكلنا في دواخلنا نتمنى أن تكون النهاية مع النزيف الأنفي وفي اليوم التالي لم نتسرع لنغادر مبكرين كالعادة بل فضلنا أن نستريح ونتحرك متي رأينا ذلك مناسباً وفي أثناء شرب الشاي سأل صباح الخير كداني عن الرعاف وكيف يحس الآن وقال " سالا اذي بروخ سبأي تقاريطو طَطَوْ ايلو" أي بفضل هذا الرجل المبارك توقف وانقطع ويضيف وأنا المجنون كنت أصر بالرفض والحمد لله قبلتٌ في الآخر .. سمعتها من كداني وأنا غير مصدق لكن يبطل العجب عندما تري النتيجة وهذا ما يرمي الية كداني .. صباح الخير يسأل كداني ان كان يسمح له بفتح الحجاب ورؤية ما فيه .. كداني يرد علي صباح الخير أجننت أم تريد الرعاف ليعود ونعاني كلنا من جرائه سوياً ,, صباح الخير لا هذا ولا ذاك أردتُ رؤية ما فيه ثم اعادته الي حالته الأصلية ورده لك .. تجاذبوا أطراف الإلحاح والرفض وتحت أصرار صباح الخير وافق كداني بشرط أن يُعيده الي حالته الأصلية ويرده أليه كما أخذه ووافق صباح الخير علي الشرط .. أعطاه إياه واقتربنا جميعاً منه حتي نري ما بداخله .. أزال صباح الخير بكل رفقٍ وعناية الجلد بعد أن فتح الخيط وفي داخل الجلد وجد قطعة من القماش الأبيض النظيف .. فتح القماشة التي كانت تحوي بدورها قطعة من الورق الأبيض تبدو انها مقطوعة من كراسٍ ثم فتح الورقة التي لم يكن بها أي شيئ لا كتابة ولا شخوطٍ ولا علامات أو رموز لكنها كانت تلتف حول ورقةٍ أخري والتي قام بفتحها وكداني لا يصدق ان كان صباح الخير سوف يتذكر كل هذه التفاصيل ويرد الحجاب الي حالته الأولي .. صباح الخير يقول له بأن لا يقلق فأنه رادها اليه وكأنه لم يفتح ولم يلمس .. قام صباح الخير بفتح الورقة الأخيرة وهنا كان العجب العجاب .. مثلث من الرقم سبعة ويبدأ برقم واحد في السطر الأول ثم برقمين في السطر الثاني ثم ثلاثة في السطر الثالث وهكذا الي سبعة أرقام في سبعة أسطر وفقط من الرقم سبعة وكل ذلك في شكل مثلث ويعطيك مثلث مهما قلبته في كل الاتجاهات .. نظرنا جميعا الي بعضينا البعض حتي كداني أحتار أرقام وفي شكل محدد وبطريقة محددة .. صاح كداني "ملسليْ حجابيْ" أي رد لي حجابي وهو يخاف أن لا يعود النزيف مجدداً .. لقد أستقرق صباح الخير وقتاً طويلاً في رده الي ما كان عليه والمهم أنه تمكن من اعادته الي سابق حالته ورده الي كداني الذي صار يشكر صباح الخير علي الجهد الذي بذله لرده الي حالته الأولي .. أتابع ولسان حالي يقول عجائب وغرائب وكما يقول المثل الدارجي تعيش وتشوف.

ونواصل .......    

 

Wednesday, April 22, 2015

البخور والحجابْ

 

 
تمكنا من الحصول علي جملٍ للمناضل كداني الذي صارت حالته الصحية في تدهور حيث صار لا يأكل ما يقدم لنا من أكل والإرهاق والمشي المتواصل ذِدْ علي ذلك النزيف الذي صار يشتد كل يوم كما أن الجو الساخن فاقم من حالته وصرنا في حيرة من أمرنا لا ندري ما العمل .. حتي في المساء الجو كان ساخنا وكل ما ابتعدنا أكثر في أغوار بركا ازداد الجو سخونة وصرنا نصرف الكثير من ماء شربنا في تبريد رأس ووجه كداني .. صارت الأمور تتفاقم وصار أكثر حدةً في حديثه وهو الأنسان الهادئ والمقدر للأوضاع لكن مع صعوبة الأشياء وقلة الحيلة بيدنا صارت طباعه تتغير ونزيفه في تزايد حتي الفترة الزمنية التي كان يأخذها صارت تطول ولا ينقطع الا بعد صعوبة وبعد صرف كمية كبيرة من الماء للتبريد وليس لدينا من الأدوية الا القليل جدا وما هو فقط لتضميد الجراح وبعد الحبوب المسكنة التي لا تفيد في حالته .. حتي ركوب الجمل صار يؤلمه بعد فترةٍ من الوقت وصار لا يطيقه وكذلك المشي يفاقم من حالته .. تحدثنا أنا وصباح الخير في ما يمكن عمله قبل أن تفلتْ الأمور من أيدينا .. اتفقنا علي نتوقف في أحدي القري الكبيرة حتي تستقر حالته ويتحسن قليلا ثم نواصل بعدها .. كان الوقت ليلا والموطن صاحب الجمل في المقدمة يدري الطريق جيدا ويقود في جمله وكداني علي الجمل وأنا وصباح الخير نسير في خلفهم ليس ببعيدين عنهم والجو الساخن بدأ تدريجيا في الميول نحو البرودة فالنسائم العليلة بدأت تدريجياً في تلطيف الجو مما سوف يساعدنا علي قطع مسافة اكبر قبل أن نصل الي القرية المقبلة التي بها سوف يتركنا المواطن صاحب الجمل علي أملٍ أن نحصل علي جملٍ آخر من تلك القرية .. كداني يطلب أن نستريح قليلاَ وعندما سألنا المواطن صاحب الجمل عن المسافة المتبقية للوصول الي القرية يقول "هلي كتاي قراهو هليتْ" يعني بأن القرية توجد خلف ذلك التل كما أنه يود أن يعود الي أهله مسرعاَ ويطلب في أن نواصل والقرية علي حد قوله ليست بالبعيدة .. عندها سألنا كداني ان كان يستطيع التحمل حتي نصل القرية ويقول كداني بأنه متعب ويود الاستراحة لكنه سوف يتحمل ان كانت القرية ليست بالبعيدة وهكذا واصلنا في السير ونواصل ثم نواصل والتل المذكور قد تجاوزناه وتلالٍ أخري غيره تجاوزناها ومازلنا نواصل في المسير وهنا نفد صبر كداني وأصر في التوقف والاستراحة وافقناه في ذلك لكن المواطن أصر علي المواصلة حتي نصل القرية التالية والتي يقول بأنها ليست بالبعيدة الآن .. بذلنا جهدا جباراَ لأقناع المواطن وتحت اصرارنا وافق علي التوقف والاستراحة .. دروس وعبر في المصاعب التي صارت تواجهنا وكيفية التغلب عليها أخذا في الاعتبار الرغبات المختلفة وكذلك أهمية كلا الأمرين فالمواطن يود ايصالنا والعودة الي أهله والمناضل كداني له الحق فيما صار يكابد ويعاني من أمورٍ عدة في آنٍ واحد وعلينا مراعاة حالته الصحية دون أن نقسي علي المواطن .. لحسن الحظ بمجرد أن تحركنا من موقعنا وصعدنا قليلاَ بدأنا في مشاهدة نار القرية وكان المواطن علي حق عندما قال في المرة الثانية بأنها ليست ببعيدة .. وصلنا وتحدث المواطن مع بعض افراد القرية حيث أحضروا لنا ماءاَ وكذلك بعضٍ من اللبن .. شكرنا المواطن كثيرًا علي تحمل المشاق معنا وعلي اخطار أهل القرية بأمرنا لقد قام بحق في خدمتنا رغم أن عليه العودة الي أهله لقد قام بالواجب وأكثر.. قضينا ليلتنا في القرية وفي الصباح الباكر سألنا كداني ان كان يستطيع ويود في المواصلة أم أن نبقي في القرية حتي تتحسن حالته .. فضل المواصلة في المسير علي الأقل في الصبح الباكر والتوقف في أول قرية نصلها .. أتفقنا علي ذلك وذهب صباح الخير في طلب الجمل وكان المواطنون قد حددوا مسبقا شخصاً معيناً لخدمتنا من البارحة عند وصولنا .. انطلقنا وجو التفاؤل يعمنا وحالتنا تعلو وتهبط مع تحسن أو عدم تحسن حالة كداني والحمد لله ففي هذا الصبح معنوياته عالية حيث شرب اللبن في البارحة وأستراح ونام وكل ذلك أفادنا كثيرا كذلك الجو المنعش والذي مازال يميل الي البرودة ساعدنا في السير بنفسياتٍ عالية ومعنوياتٍ حدودها السماء علواً .. صباح جميل ذكرني صبايا وأنا أسمعُ صياح الديكة ونحن نغادر القرية .. لقد استفدنا من تلك المعنويات وسرنا كثيراً ويبدو بأننا قد قطعنا مشواراً معتبرا وشمس بركا القوية ها هي بدأت تسطع وتلسع بألسنتها وهمنا أن نصل الي القرية قبل ان يبدأ رعاف كداني .. لقد كان تخوفي في موضعه حيث بدأ الرعاف وكداني يطلب التوقف والنزول من الجمل وقطعة الشاش علي انفه .. بدأنا نصب الماء علي رأسه لتبريده وليس بظلٍ في المكان يمكن ان يستظل به وأتحدث مع المواطن صاحب الجمل إن كانت القرية ببعيدة ورده كان بأن الانحدار الذي نحن فيه يوصلنا الي الوادي وبمجرد ان نعبره هناك القرية خلف الوادي .. خبر مفرح وأردت أن أرفع معنويات كداني به وذكرت له ما قال المواطن .. قال لا أود أن أكون قاسيا علي المواطن لكني لا أصدق حتي أري والبارحة وما صار فيها ليس ببعيد .. انطلقنا مجدداً دون أن يتوقف الرعاف كاملاً حيث لا ظلَ هناك ولا شجر ومن الأفضل المسير وكما قال المواطن نزلنا الي الوادي وها هي أغنام القرية في الطريق نلتقي بها وهي تعبر الوادي .. اطمأنت نفوسنا والمكان يبدو جميلا وهذا رجلُ من القرية عندما رآنا فرح فرحا شديدا كالذي كان يبحث عن ضالته ووجدها أتي وسلم علينا وقال اتمني أن تكون وجهتكم قريتنا قلنا نعم فأخذ الحسال من المواطن صاحب الجمل وصار يقودنا وقال بأن ابنته ترتعد من الحمي وربما تكون بها ملاريا "عَسُو" وقال في المرة السابقة عندما كانت زوجته بها نفس الأعراض وكانت الجبهة مارة بقريتهم أعطوها حقنة أدت الي شفائها ويضيف قائلا ولحسن حظ ابنتي ها أنتم الآن قد وصلتم قريتنا وسوف تقومون بالواجب نحو ابنتي ويحمد الله كثيرا بانه التقي بنا .. نتبادل أنا وصباح الخير النظرات ونحن في حيرة من أمرنا ولا ندري كيف سوف نتصرف .. اقترب صباح الخير من المواطن وقال له بأنه ليس معنا حقن لكن سوف نقوم بالواجب علي قدر استطاعتنا وسأل المواطن لماذا يٌحمل كداني علي ظهر الجمل أهو مريض ورد صباح الخير بالإيجاب مضيفاً بأن له رعافٍ مزمن وكرر الرجل غير مصدقٍ أقُلتَ رعاف ورد صباح الخير بالإيجاب .. قال الرجل أدري أنتم الجبهة لا تؤمنون بهذه المسائل لكن إن اردتم عالجته لكم ومرةٍ اخري نتبادل أنا وصباح الخير النظرات ويرد عليه قائلا سوف نسأله فان أراد ووافق فلماذا لا ثم أضاف صباح الخير قائلا عندما نصل موقع استراحتنا سوف نشاوره ونأخذ رأيه في الأمر وعندها نخبرك .. وها هي معالم القرية تبدو من بعيد والرجل يدري المكان المناسب وأخذنا مباشرة الي تلك الشجرة الكبيرة ذات الظل الظليل حيث أجلسنا وذهب وأحضر الماء والنار وبدأتُ في تجهيز الشاي وذهب صباح الخير مع الرجل لمعاينة ابنته المريضة وبعد فترةٍ عادا سوياُ وتبدو علي المواطن علامات الفرح والسرور لقد كانت ابنته تغلي من الحمي وكانت قد غطيت بنوع البطانية المصنوعة من صوف الغنم "شمتْ" وكانت تتصبب عرقاً وأول ما فعل صباح الخير هو إزالة البطانية عنها .. وبقطعةٍ مبللة من القماش أزال العرق من وجهها ووضع القطعة في جبهتها بعد أعطاها حبوباً لأنزال درجة حرارتها .. جلسنا الجميع نشرب في الشاي واخرج صباح الخير بعض الحبوب وطلب من الرجل أن يعطيها حبة واحدة ثلاثة مرات في اليوم الي أن تنتهي وزاد سرور الرجل وعندها يقول لماذا لا تسألون صاحبكم إن كان يوافق علي أن أقوم بعلاجه وتساءل كداني عما يقوله الرجل وعندها تدخل صباح الخير وشرح لكداني ما ذكره الرجل عن إمكانية علاجه ان كان يوافق .. ارتبك كداني وتلعثم قليلاً وبعد أن تمالك أنفاسه قال كيف وبماذا وسألت الرجل أن يشرح لنا كيف وبماذا سوف يتم العلاج ورد الرجل قائلاً انا أخبرتكم بأنكم لا تؤمنون بهذه الأشياء لكني أعدكم انشاء الله أن أعالجه .. شرحنا لكداني حديث الرجل ووَعْدَه بعلاجه دون سؤال عن كيف وبماذا .. تردد كداني وقال إنه عاني من هذا النزيف لمدة وانه مستعد لفعل أي شيء لكن ليس بأن يضع نفسه تحت تصرف هذا الرجل الذي لم يوضح ولا يريد أن يوضح بماذا وكيف سوف يعالجه .. قلنا لكداني بأنه صاحب القرار وبأن له الحق في الرفض أو الموافقة ولقد كانت مبادرة من المواطن ولم يطلب منه أحد فعل ذلك وفي تلك الأثناء استأذننا المواطن صاحب الجمل في العودة الي قريته وشكرناه علي أتعابه معنا وتمني لنا سفراً سعيدا وغادر عائداُ وبعده مباشرة قال المواطن يبدو أن صاحبكم لا يريد العلاج من يدي وهو حرٌ في ذلك وأراد المغادرة وفي تلك الأثناء لا أدري ما الذي دفع كداني لتغير رأيه وقال لصباح الخير بأنه موافق في أن يعطي الرجل فرصة لربما يكون ذلك أنفع وأفيد ,, وذهب الرجل الي منزله وأحضر بعد الأعشاب واناءاً للبخور "مبخرت"  وطلب من كداني أن يجلس مستقيماً ووضع النار في أناء البخور ثم الأعشاب وقام بتغطية كداني بثوبه وأدخل البخور من تحت الثوب ثم أخرجه وتركه ليتنفس ثم كرر ذلك سبعة مرات وتركه عندها لينام ثم ذهب الي منزله وقال سوف أعود لاحقاً بحجاب له .. ذهب الرجل وكداني يغطي في نوم عميق ونحن في ذهول من أمرنا لا ندري ماذا نقول وكيف نفسر الأمر لكن همنا الوحيد أن نري الرعاف وقد توقف نهائيا .. وفي وقت الظهر عاد الرجل ليقول بأن حالة أبنته في تحسن وهي أفضل مما كانت عليه سابقا ويشكر صباح الخير وقد أتي يحمل قدحا به عصيدة باللبن وكداني كان وقتها قد استيقظ وقال بأن تنفسه الآن أفضل بكثير من السابق أما الرعاف فلا يدري عن ذلك بعد .. أخرج المواطن من جيبه حجابا قد ظرفه جيدا بقطعة من الجلد ووضع فيه خيطا وطلب من كدان أن يمد يده وقام الرجل بوضع الحجاب في يد كداني الذي لم يبدي أي رفضٍ أو ممانعة وقال له أنشاء الله سوف ينفعك .. طلب صباح الخير من الرجل أن يبحث لنا جملا يعيننا في الطريق حتي تتحسن حالة كداني .. قال الرجل سوف أذهب الي القرية وأري لكم أحدا يرافقكم بجمله متي ما تشاؤون الرحيل أما عن كداني فصدقني بأن حالته سوف تكون أحسن من السابق وسوف ينقطع عنه الرعاف تماما .. قالها وكأنه العارف الواثق من نفسه .. مكثنا بالمكان حتي بعد العصر وحتي ذلك الوقت لم يأتي كداني الرعاف ولا نستطيع تأكيد الانقطاع ان كان مؤقتا أو كان دائما وعلي كلٍ سوف يتجلى ذلك لاحقا.
        ونواصل ........

Saturday, April 18, 2015

همبول واللقاء الأخير


 



أعد الرفاق من حراس المجلس وجبة الغداء وخرج الينا القائد حليب ستي ولم تكن الوجبة بأحسن مما كنا نأكل في العيادة المركزية بالجبل هي نفسها وجبة القراصة مرشوشة  بالعدس والكل حول المائدة نأكل ونمرح ونضحك لا رئيس ولا مرؤوس لا جندي ولا مسؤول كلنا حول مائدة واحدة سواسية تأخذ حجم يدك ولا حجم موقعك نعلق علي بعضينا ونضحك وهاهي البساطة وهاهو التواضع ونكران الذات في أسمي وأجل معانيه تغرس كالبذور في نفوس كل المناضلين لتؤٌتي أكلها في التواضع والتكافل وحب الآخر نموذج تمنيت لو استمر في كل جوانب الحياة لاحقا ... حليب ستي عضو المجلس الثوري يمزح ويمرح مع كداني ويداعبه قائلاً أأكل جيدا لتعوض الدم الذي فقدته من خلال الرعاف المزمن وكداني يرد المداعبة بمثلها قائلا كنت أتوقع أن أجد لحما طريا وفاكهة متنوعة في مائدة المجلس الثوري لأعوض ما فقدت من دم والكل يضحك وحليب ستي يرد عليه قائلا كلها أيام قلائل وسوف تأكل القريت فروت وتشرب عصير المنقة الذي أخاف أن ينسيك الميدان ونضحك وهكذا قضينا وقت في قمة الروعة وقتٌ نوعي لا تجد له مثيلا ولا يتكرر كثيراً .. وقت نوعي بنوعية الحضور من الناس مستوي رفيع من الحوار ومواضيع الحوار كل شيئ كان يلقي برونقه وعبقه في ظلال أجوائنا ... أستأذن حليب ستي ودخل الكوخ الذي هو بمثابة مكتبه وعندها يستأذن الشهيد أدريس من بقية الرفاق ويستدعيني بعيدا حيث جلسنا في الوادي تحت شجرة السدر الظليلة بدأ يتحدث وهو يؤشر في الأرض بحجر صغير في يده ذاكرا كيف أن الأيام تمر بسرعة وكيف انقضت شهور أربعة منذ صعودنا سويا الي الجبل وكيف أنه كان دائما ينظر الي كأخ أصغر وكنت أحس ذلك في كل معاملاته وحديثه ونصائحه لي ولهذا كنت أجله وأقدره وأحترمه وكنت أعود اليه في كل مسألة وموضوع مستعصي .. ذكر لي بانه وحرسيه سوف لن يكونا في الجبل لفترة من الوقت حيث أعطيت له مهام تحضيرية تتعلق بالمؤتمر الوطني الثاني المقبل والذي كما قال تًبذل قصاري الجهود من أجل انجاحه ومهمته كما ذكر كانت تتعلق باقامة ندوات وأجتماعات تنويرية وتثقيفية عن المؤتمر وعن الدور المرجو من المناديب لعبه في المؤتمر ثم يتبع ذلك باقامة الترشيحات لأختيار المندوبين للمؤتمر من الجيش والشعب عن المنطقة التي كما قال تقع حوالي الجبل قال سوف نقوم بكثير من السفر والتنقل لعقد هذه الأجتماعات وصار يحدثني بأنه كيف كان مغرما بالعمل وسط الجماهير وهاهي فرصةٌ تتاح له للعب الدور الذي طالما أحب أن يلعب... طالت جلستنا في الوادي والشهيد لا يود ان ينسى اي نصيحة دون ان يسديها إلي وإني لا اود أن أغادر دُون ان يعلم مدي إمتناني واحترامي وتقديري له كل منا له رسالة يود إيصالها للأخر والحال كذلك حتى سمعنا صوت صباح الخير من وراء اشجار السدر يقول صائحا "يهو قدم وَقتْ ورَبْ تُو" اي حان وقت الرحيل .. وعندها تحركنا الثلاثة الي اتجاه الكوخ والراكوبة مقر عضو المجلس الثوري حليب ستي وهناك أخذنا أمتعتنا وعانقنا المجموعة مودعين وأصر الشهيد إدريس في مرافقتنا لمسافة ثم وبعد إصرار وإلحاح صباح الخير عاد الشهيد وواصلنا نزولاّ الى بركا وهنا كنا فقط ثلاثة  افراد صباح الخير وكداني وشخصي وعلينا بالأهتمام بكداني كي لا يشتد عليه النزيف الأنفي حيث الفكرة تكمن في أن لا نسير وقت إشتداد الشمس وبأن نكتفي بالمشي في أوقات الصباح الباكر والمساء كذلك في أن نبحث له عن جمل يستقله ويكفيه عناء المشى على أقدامه كل هذا المشوار .. انه اليوم الأول في مشوارٍ ربما يستغرق أيام وليال ووجهتنا الأولي سوف تكون أقرب قرية في طريقنا نجد فيها جملا لكداني .. الوحيد الذي يمكن ان يدري الطريق هو صباح الخير وحتى هو غير متأكد بالوجهة واتفقنا أن نتبع خط غروب الشمس مع ميلانٍ الى الجنوب قليلاّ علي الأقل نحن الثلاثة متفقين في ذلك وبالنسبة لكداني فهي المرة الأُولي التي ينزل فيها الى بركا وعليه فالمشي بالليل يكون أنسب شيئ مع حالته الصحية ... نسير ونسير بلا عناءٍ أو كلل تلالٍ وتلال نتخطاها وديانٍ ووديان نعبرها ومازلنا نبحث عن أقرب قرية في طريقنا الي أن سمعنا نباح كلب لا يبدو بعيدا انشرحت صدورنا وعمتنا الغبطة وأدركنا بأننا على مقربةٍ قرية لا ندري حجمها ... توقفنا حتى نسمع الإتجاه الذي منه اتى النباح وهاهو يتكرر أكثر علواً ووضوحا ولم يكن لنا أدنى شك من وجهته ولا من الأتجاه الصادر عنه ... يممنا شطر ذلك الإتجاه وصرنا نسير ونسير ولا أثر لأي قرية والظلام صار دامساً حالكاً وكداني يصارع مع رعافه الذي بدأ ولم يطلب التوقف ظناً من إننا وصلنا الى القرية ولكن عندما ذهبنا طويلاً ولا أثر لأية قرية عندها طلب كداني بأن نتوقف ونستريح حتى يتوقف رعافه وكان ذلك سبباً كافياً للتوقف وما أن توقفنا وصار صباح الخير يصب في رأس  كداني قليل من الماء القليل الذي تبقى عندنا حتى وسمعنا النباح مجدداً لكن هذه المرة فالنباح من خلفنا ويبدو بعيدا هذه المرة وانتابنا خليط من الإحساس والشعور فمن جهة نحن فرحون لسماع النباح مجددا حتي نتأكد من وجهتنا وهوشيئ مطمئن ومن جهة أخري انتابنا الإحباط لتجاوزنا المكان وبعدنا عنه .. تشاورنا في ماذا يمكن فعله فلا نود أن نصل الى القرية في وقت متأخر من الليل وكذلك لا نود ان يكون ذلك على حساب كداني الذي حالته تتطلب الإستراحة على الأقل حتى يتوقف رعافه اتفقنا على أن أبقى مع كداني ويذهب صباح الخير ليستطلع أمر نباح الكلب ومدي قرب القرية وأن لا يبتعد كثيرا .. انطلق صباح الخير بعد ترك أمتعته معنا واختفي في جنح الظلام وحالة كداني بدأت في الأستقرار وقد توقف النزيف لكنه مازال ممسكاً بقطعة الشاش في انفه .. مر وقت ليس بالقصير وسمعنا النباح عاليا متكرراً  وكان حادا وشديدا وعندها قلنا ربما إقترب صباح الخير منه وربما لهذا السبب ينبح بحدة وشدة .. تأخر صباح الخير ولا ادري ما العمل فكل خيار أصعب من الأخر والجلوس دون فعل شيئ ايضا ليس بالخيار المناسب .. صرت اتحدث مع كداني في ما يجب عمله ونحن نتحدث في الموضوع واذا بصوت صباح الخير يسأل "يَهَوْ ابايا هَليكُم" أي أين أنتم رفعت صوتي قائلا "إبلا إبلا صباح الخير" اي من هنا من هنا يا صباح الخير ... لقد ضٓل طريقه الينا وهذا ما أخره وقال بأن المكان بعيد و يتطلب عودتنا الى الوراء ذهابا اليه ثم إنهم لا جمل لهم ولا ناقة وعلينا أن نواصل الى الأمام بدلا من الرجوع الي الوراء حيث أنهم قالوا بآن قرية أكبر توجد أمامنا في الطريق .. لقد أتى صباح الخير ومعه كل المعلوملت المطلوبة .. تركناه يستريح قليلاً وانطلقنا في الأتجاه الذي ذكره .. وكما قال كانت امامنا قرية تبدو للعيان من بعيد بنيرانها المتقدة وبكلابها النابحة ونحن نقترب من القرية  .. نزلنا بالقرب منها وذهب صباح الخير في طلب الكلأ وماء المشرب وإيادٌ من نارٍ ... كانت هي العادة المتبعة بأن تنزل بالقرب من القرية وليس بداخلها وذلك ردءاً للشبهات وبعدا من الاحتمالات وحفاظا على خصوصية حياة المواطن واحترام تقاليد المجتمع .. أتي المواطن بالعصيدة "أكلت" وبعد ان ضعها على الأرض اعتذر على عدم وجود اللبن وقال "طبحا من نوساتو" أي أن العصيدة ملاحها من ذاتها يعني منها وفييها .. شكرنا الرجل على كل حال وأنه لا حرج فيما لا يتوفر لديه ... ذهب الرجل وبدأنا نأكل وهنا وهنا جن جنون كداني قائلا كيف يعقل أن لا يكون لهم لبن لتمليح هذه العصيدة ورفض الأكل رغم محولاتنا الحسيسة لأقناعه .. طلبنا منه أن ينسى المذاق وان لا يركز فيه وأن يأكل فقط لكن هيهات لمن تنادي رفض البة وعوضا عن ذلك أكثر من شرب الشاي مع كثير من السكر .. لم ألمه فالمذاق كان صعبا لكن للضرورة احكام.

 

ونواصل ........

    

 

 

 

Sunday, April 12, 2015

مع حليب ستي في هنبول

 


بعد عودتنا من سبر ودبر معر كان التركيز منصبا علي التدريب والجاهزية القتالية وظهر تحسن كبير لأوضاعنا المعيشية وكذلك في العيادة المركزية وذلك بفضل الجهود الدؤوبة والحثيثة التي ما برح المسؤولون يبذلونها وعلى رأسهم الشهيد ادريس عمر وكذلك ود حاج علي مسؤول العيادة وآخرون خلفهم يعينونهم في تحقيق هذه النجاحات الملموسة .. لقد كان نادرا مانأكل العدس والأن ومنذ عودتنا صار وجبتنا الرئيسية مرتين في اليوم والسكر صار متوفرا بأستمرار دون معاناة وكذلك سمعت بأن العيادة استلمت مؤخرا دفعات من الأدوية وصاروا يفكرون بأقامة دورات للتمريض وتوزيع الممرضين في الوحدات العسكرية وكذلك توزيع أدوية الأسعافات الأولية بشكل روتيني .. هنالك برامج كثيرة في الأفق بدأت تلوح والضرورة صارت ملحة لها فالإرتفاع التدريجي لأعداد المقاتلين بات يعجل في أن تقام دورات طبية ثابتة  كذلك في الجانب العسكري صارت برامج كثيرة ملحة وضرورية وعلي حسب علمي فان هناك حراك شديد منذ  وصول القائد ادريس محمد ادم رئيس المجلس الثوري الي الميدان والأجتماعات المتتالية للمجلس وانبثاق اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الثاني .. حراك وديناميكية في الساحة تبشر بالأرتقاء بالعمل الثوري الى رحاب أوسع وآفاق أبعد .. أمور كثيرة في طريقها للتغير وهذا أبوعفان صاحبي المقرب يقول بأنه أخيرا حصل علي الموافقة بالذهاب لزيارة أهله وكذلك لموضوع أخر وهنا يفشي لنا أنا وعبي سرا ويطلب منا كتمانه بأنه سوف يتزوج من ابنت عمه التي انتظرته طويلا ورفضت الزواج من غيره رغم الضغوطات التي مورست عليها .. يقول بأن قائد السرية استدعاه بعد عودتتا من سبر وأخطره بالموافقة وبأن رسالته ومصروفه الذي يعطي عند المغادرة سوف يكونا جاهزين .. اما عبي فيمازح أبوعفان قائلا من يكون لك وزيرا وانت تتركنا وتذهب لتتزوج .. أبوعفان موجها حديثه لعبي أخفض صوتك فأني لا أود أن ينتشر الخبر.. وهكذا كانت الحياة تمضي بين أملٍ ورغبة وواقع وصعاب .. بين أحلامٍ وآمالٍ ومشاق .. بين طموحات نتمني تحقيقها وبين حاضر ومصاعب تحول دون ذلك .. هكذا كانت الأيام تمر وتمضي حتي ذلك المساء حيث كنت أجهز نفسي للخروج للحراسة الليلية لكن محمد عافة قائد الفصيلة يقول لا عليك الليلة وسوف يأتي صباح الخير للتحدث معك قلتُ انشاء الله خير قال خير لكن التفاصيل معه وصرت انتظر قدوم صباح الخير بفارق الصبر لأعرف مابالأمر .. أنتظرته حتي وصل من العيادة وأحذني بعيدا وقال أن لقائنا سوف يكون قصيرا فعليه العودة سريعا  لذا سوف لن يطول الحديث قلت وما الأمر بأختصار قال ان علي أن أجهز حالي فسوف ننطلق غدا مبكرين في أتجاه بركا هناك مريض وحالته طارئة وعلينا النزول به وسوف لن نكون لوحدنا بل سوف نكون مجموعة لابأس بها قال تصبح علي خير وغادرني نزولا الي مقر العيادة ومباشرة بدأت في تجهيز أغراضي وفي هذه الأثناء أتي المناضل محمد عافة وجلس يحدثني عن أمور كثيرة بعضها كان عاما عن أمور الثورة والنضال وبعضها كان خاصا به وكيف أنه كانت تحدوه رغبة جامحة في التعليم وكيف أنه لم تتح له الفرصة في ذلك وكيف أنه لابد لأبنائه وبقية الأطفال في ارتريا أن يحصلوا علي  نصيبهم من التعليم .. فتح قلبه وأخرج الكثير من المدفون لكنه لم يصل لدرجة الوُبوح بأميته في القراءة والكتابة ولم أدفعه الي ذلك الأتجاه فهو أعلي وأكبر من أن يدفع في ذلك الأتجاه .. في الختام قال يجب أن تودع رفاقك فربما لا يتثني لك لقائهم من بعد وكما قال مررت برفاقي مودعا فربما لا أراهم في الصباح حيث سوف نغادر مبكرين جدا علي حد قول صباح الخير .. وفي الصباح الباكر لم نشرب حتي الشاي انطلقنا وأنا مازلت نصف نائم أدعك وأفرك في عيوني  وأتعثر في الطريق ولحسن الحظ لم أكن في المؤخرة كما ان عددنا لم يكن بالكثير كما توقعت من حديث صباح الخير لقد كنا ستة أفراد الشهيد أدريس عمر وحرسيه ثم صباح الخير والمناضل كداني الذي به رعاف مزمن لم يتمكنوا من ايقافه في العيادة والخوف في أن لا يتفاقم الي خطورة تهدد حياته دفع ود حاج علي الي تحويله من العيادة المركزية.  تدريجيا ومع نسايم الصباح العليلة وأصوات الطيور المغردة لليوم الجديد بدأت عيوني تتفتح كتفتح الأفق البعيد ضياءا وانشراحا .. بدأت أصحي وأتصحصح وأكتسب طاقتي من هذا البهاء والجمال من حولي شفق بعيد وندا تلامسه يدايا فوق الحشائش وأشجار "التسس" والطيور والحبور والمرور في هذا الوسط .. عالم الصباح في الجبل انما هو عالم بذاته في وحدة متناقمة متناسقة ودومومة وصفاء عالم لا يعكر صفاءه شيئ فهو بعيد من أسباب العكر والتعكير لوحة يحفظها بارئها ويصونها خالقها ومدبر أمرها .. بدأ ظلام الليل في الأنقشاع رويدا رويدا وبدأت معالم المكان في الوضوح وهاهو حسن المناضل الشاب أحد أفراد حرس الشهيد ادريس يقود السير بخطاً ثابة وسريعة والمسافات بيننا ليست بالمتباعدة كما في العادة الكل يود أن نقطع مشورا كبيرا قبل أن تلسعنا الشمس بألسنتها خصوصا ومعنا كداني الذي تٌفاقم الشمس من حالته .. ظللنا نمشي بتسارع وصار واضحا من اننا في حالة نزول لقد بدأنا النزول من الجبل ومن الملاحظ الكمية الكبيرة لأغنام الماعز والتي تراها في كل أتجاه وهاهو أحد الرعاة يبدوا من البعد في الطريق وعندما وصلنا اليه بدأت عليه علامات السرور والغبطة بلقائنا وأصر علينا بالجلوس برحة من الوقت حتي يحلب لنا وتحت أصراره قبل الشهيد ادريس علي أن نجلس قليلا من الوقت تحت هذه الشجرة وذهب الراعي الشاب يحلب لنا اللبن وكانت فرصتي لأسأل الشهيد عن وجهتنا وعن المهمة التي أنا بصدضها قال والحديث لم يكن موجه لي فقط بأننا في طريقنا الي همبول ملوحا بيده الي تلك المجموعة من الجبال حيث سوف نلتقي بالمجلس الثوري وكان يعني بالعضو الممثل للمجلس الثوري قال حسن متسائلا أسوف نصعد الي الجبال يعني جبال همبول ورد الشهيد أدريس قائلا بأنه لا يتطلب منا الصعود الي الجبال حيث أنهم متواجدون في الوادي وبأنه يعلم المكان بالتحديد وهاهو الراعي الكريم يأتي باللبن الساخن في سعن صغير "هوت"  وبدأنا نشرب ونمرر في السعن الي بعضينا حتي شربناه كاملا وعندها قال الراعي دعوني أحلب لكم أكثر والجميع أبدينا رفضنا القاطع حيث كنا قد أمتلانا بحق وحقيقة ولقد عوضنا ذلك علي عدم شرب الشاي في الصباح قبل المغادرة .. شكر الشهيد الراعي علي كرمه وشهامته وتمني له الخير الوافر الكثير وواصلنا في النزول تلال وراء تلال تنزل واحدة لتبدأ في الأخري تناغم وتسلسل وبهاء الي أن وصلنا الي الوادي المغطي بأشجار السدر الظليلة والتي جلسنا عندها ليذهب الشهيد أدريس وبرفقتة حرسيه الي مكان تواجد المجلس الثوري .. أختفو لفترة ثم يعود حسن لوحده قائلا بأن المكان ليس ببعيد انه قريبٌ من هنا وتبعناه بين أشجار السدر الكثيفة ويلوح بيديه الي كوخ علي البعد قائلا هو ذاك مقر المجلس .. المكان لايصله الا عارف ومدرك حتي ولو كان بالمنطقة وقبل الولوج الي المكان أعترضنا أحد حراسه وبما أنهم كانوا يتوقعوننا مع حسن فالتحقق والتأكد من هوياتنا لم يطل أو يأخذ زمناً .. رافقنا الحرس الي المقر حتي وصلنا الي راكوبة أمام الكوخ كان يستظل ويجلس فيها بقية أفراد الحرس .. استقبلونا بحرارة ورحبوا بنا ترحيبا مابعده ترحيب لقد فرحوا فرحا شديدا تحسه متدفقا في محي وجوههم جلسنا معهم نحتسي الشاي وكان أثنائها الشهيد أدريس في داخل الكوخ مع المناضل حليب ستي عضو المجلس الثوري في اجتماع مطول .. أحد الشباب من حراس المجلس قال لي سوف أقدم لك هدية تذكرني بها دائما أينما كنت قلت بكل فخر واعتزاز .. أخرج طلقة من كفوفه ثم حرك رأس الطلقة بكل الأتجاهات حتي صارت أيلة للخروج ثم أخرج الرأس من الظرف وقام بتفريق البارود علي قطعة قماش ثم أخذ ايادا من النار وقربه من مؤخرة الظرف وعندها أحدث فرقعة خفيفة أدت الي ثقب الظرف من المؤخرة ثم أدخل خيطا من خلال الثقب وربط مؤخرة الخيط عدة مرات حتي صارت كالعقدة تمنع الخيط من الخروج ثم وضع الرأس مجددا في مكانه وأحكم الرأس في الظرف .. عملٌ جميل ورائع طلقة تتدلدل من العنق ولا تمثل أي خطورة .. قبلت الهدية وكلي أمتنان وتقدير علي منحي هذه الهدية القيمة والمعبرة وبينما نحن نتجاذب في أطراف الحديث مع الشباب من حراس المجلس خرج الينا الشهيد ادريس عمر وطلب مني بالدخول لمقابلة القائد حليب ستي وكنت بحق متشوق لتلك اللحظات التي أقابله فيها وطالما سمعت عنه وعن بطولاته التي كان الشباب يتغنون بها "حليب ستي سني فالو" .. كان الشهيد أدريس قد أعطاه نبذة عني فبمجرد أن دخلت قام من مجلسه وصافحني بحرارة وهو يناديني بأسمي وطلب مني الجلوس .. شخص تحس بأريحية في مجلسه وتحس بأنه لا حواجز ولا موانع للحديث اليه فهاهي المرة الأولي التي أقابله فيها وكأننا نعرف بعض منذ مدة وببساطة  كان  تواضعه يذيب كل الحواجز .. شخص كان بمستوي الشهرة التي حظي بها وأكثر .. ثمات قيادي من الطراز الأول هدوء وسكينة تبعث فيك الأطمئنان .. والأسترقاق في السمع بعطي أهمية لكل ماتقول دون مقاطعة ولا خروج ولا استرسال ثم حديث مهذب في المضمون .. طلب مني أن احكي له عن تجربتي خلال الأربعة أشهر التي قضيتها في دبر سالا وفعلتُ بأيجاز ثم صار يقدم لي النصائح ويعدد لي في أوجه النضال وبأن البندقية ليست الا واحدة من تلك الأوجه .. قال ان تحرير الأنسان من الجهل والمرض لا يتم بالبندقية وحدها رغم أن الكفاح المسلح يمثل أرقي وأعلي أوجه الفداء والتضحية .. كان حديثه مشبعاً بروح الحماس ودافعاً معنويا للتحصيل العلمي .. أول مقابلة لي مع عضو مجلس ثوري وفي خلاصتها ينصحني بأن أذهب وأُواصل تعليمي  حديث لم أتوقعه بالمرة لكنه كان ينم ويوحي عن بعد نظر وعن فهم بالمسؤلية .. حديث كان له ما بعده من تأثير في حياتي.

ونواصل ................



Thursday, April 9, 2015

وعودة الي الجبل


مرت كثير من المياه في المجاري ونحن في التنقل من قرية الي اخري ومن منطقة الي منطقة نتقابل فيها مع وحدات مختلفة من الجبهة متنقلة هي الأخري في نفس المنطقة وكذلك كنا في طواف وتنقل الي ان اتتنا رسالة من قائد السرية تطلب منا بالعودة الي الجبل وكانت هذه الرسالة ردا علي رسالة كان قد بعث بها محمد عافة قائد فصيلتنا حيث وبعد مدة من الطواف وبعد تدقيق وتفحص للمعلومات القادمة من مدينة كرن والتي لا توحي باي استعدادات للعدو للخروج من المدينة نحو دبر سالا حيث خٰمُدت جزوة تلك الاستعدادت السابقة كما ان تواجد وحدات الجبهة الدائم والمستمر في المناطق المحيطة بمدينة كرن فعل فعلته في تغيير مخططات العدو وأدي ذلك الى ارباك خططه  وهذا بالتحديد ما سعت اليه قياداتنا وكان ذلك ينم عن فهم وحسن تخطيط ... اجتمع بنا محمد عافة في ذلك الصباح الجميل ونحن جلوس نحتسي الشاهي الساخن  من اكوابنا ال "اذانيت" وأخرج الرسالة من جيب قميصه وفتحها وصار يتحدث ملوحا بالرسالة ذاكرا بان الأمور قد تحسنت في الجبل حيث تم تخزين الأمدادات الكافية والظروف الأمنية لا تستدعي في الطواف المستمر كما ان وجود الوحدات الأخري في محيط مدينة كرن لا يستدعى ولا يتطلب تواجدنا هنا وبما ان موسم الأمطار قد بدأ ومع ما يمثله من مصاعب يقتضي ويتطلب عودتنا الي الجبل كما انه تنتظرنا مهام اخري هناك من اصلاح البيوت وبناء وحدات اخري تستطيع الصمود امام أمطار الجبل والتي تكون أحيانا مصحوبة بالرياح القوية .. كما عدد ذاكرا الأيجابيات التي جنيناها من النزول من الجبل خلال هذه الفترة وكيف انها أعطت الجماهير روح الثقة والأطمئنان بتواجد كل هذه الوحدات في المنطقة مما عزز بأعداد الشباب الملتحقة بالميدان والروح المعنوية العالية .. سرد الكثير والكثير وكنت في دواخل نفسي اقول ان  يحرمك الله من ميزة واحدة فأنه يعطيك ميزات واشياء أخري كثيرة وهاهو المناضل والقائد محمد عافة يتحدث بسلاسة وبأريحية وتسلسل منطقي للأمور وبحضور ذهني أخاذ وكانه يحاضر امام تلاميذ له في الجامعة قلت سبحان الله .. بعد ان افاض في الحديث فتح المجال للأخرين يضيفون ويتساءلون كيفما يشاؤون  ثم في الختام ذكر بأنه امامنا مجالا واسعا للأستعداد والتحضير وتجهيز انفسنا لكي نغادر بعد الظهر .. وكما ذكر كان أمامنا متسعا من الوقت لكي نغسل ونغتسل وهكذا كان وملابسنا المسطوحة في الصخور الملساء خير شاهد علي ذلك .. وما ميز يومي من غير أمور الأستعداد هو حديثي الشيق والمطول مع المناضل من اسماط حيث ذكر لي كيف التحق بالثورة .. قال كنت ممتلئا شبابا وحيوية أردت ان أبني حياتي وليس أمامي ما أفعل في القرية غير الرعي والزراعة الموسمية .. قال نزلت كأقراني من الشباب نبحث عن العمل وحينها كانت طوكر بمشاريع القطن وما يصاحب ذلك من موسم اللقيط الجاذب الاكبر للباحثين عن العمل وهي كانت أقرب الينا من مدني ومشاريع القطن والمحالج التي كانت ايضا تستقطب كمية كبيرة من الشباب .. قال كان عملا موسميّا في مزارع القطن بدلتا طوكر تعود بعده معظم الشباب الي قراها متبضعةّ لأهلها بالملابس والحلي وكانت معظم الزيجات تقام بعد عودة الشباب لكني فضلت عدم العودة والمواصلة لبورسودان لعلي أجد عملا افضل .. قال عملت بالميناء مع عمال السقالات لسنين عدة ذقت خلالها ويلات العمل الشاق وقررت تركه والعودة الي اسماط وكلي حسرة علي السنين التي مضت من عمري دون تحقيق  حلم أو بناء حياة وفي تلك الأثناء تعرفت الي أحد الأصدقاء الذي اقنعني بالذهاب الي كسلا والعمل في البساتين هناك .. استقر بي المقام في كسلا وتنقلت بين عدة اعمال وخلال تلك الفترة كان الكفاح المسلح قد بدأ وكنت قد تأطرت ضمن الخلايا السرية وكنا نجمع في الاشتراكات والمساعدات ونرسلها الي الميدان .. قال مرت السنين وأشتد عود الثورة وقويت شوكتها وأزداد بطش العدو بالجماهير العزل وأجتماعتنا في كسلا صارت أكثر من ذي قبل وفي واحدة من تلك الأجتماعات كان الموقف مؤثرا جدا حيث السرد كان عن المجازر وحرق القري والابادات التي كان يرتكبها العدو في الريف وكثرة الأعداد اللاجئة الي السودان  وكان المتحدث يذكر بحرقة ان لم تحركنا كل هذه الأعمال ما الذي سوف يحركنا حتي نزود عن أهلنا وقرانا وكان لهذا الحديث ولما كنت أسمع من القادمين تأثير مباشر علي خصوصا ولقد عانيت وأدركت الحرمان وأدركت أهمية الوطن وقررت الالتحاق ولم اكن لوحدي بل كنا مجموعة ليست بالقليلة ... ظل صاحبي المناضل من اسماط يحكي لي وانا مشدودا الي حكاياته حتي حان وقت الرحيل وهاهو ذا ابو عفان يرفع في البرين ويطلب الأنتباه ثم الأستعداد من الجميع وكلنا لحظتها صفوف متراصة ثم نبدأُ في الانطلاق وأذكر جيدا عندها كنت التفت كل مرة لأنظر الى دبر معر خصوصا عندما بدأنا في الصعود .. دبر معر عملاق بحق وحقيقة ولا ادري ان كانت اطرافه الأخري مأهولة اما التي امامي فلا تبدوا .. ظللنا نواصل في المشي حتى اختفي دبر معر وصرت لا اراه تماما والعليل البارد القادم من القمة ذكرني بصعودي الأول للجبل من اتجاه بركا والليل قد حل لكن ضياء القمر الساطع أعاننا في مواصلة المسير والعليل يذداد برودة مما اكد لي قربنا من القمة ولقد صدق ظني عندما أُمرنا بالتوقف والاستراحة ثم واصلنا بعدها وعلي حد قول محمد عافة فانهم في الجبل يتوقعون وصولنا اليوم والفصيلة المتبقية للحراسة أُخطرت بوصولنا ولا نتوقع اي مفاجأٓت رغم ان كل شيئ جائز .. ظللنا نمشي والجو قد ازداد برودة والسكون شاملا ماعدا حركة ارجلنا وتلاطمها مع شجيرات التسس وصوت عال يأمرنا بالتوقف وكان ذلك متوقعا لقد وصلنا وياللفرق بين جو الجبل البارد وجو السهل "قلاقل" الدافئ.

ونواصل ......

Friday, April 3, 2015

كوكلاي وغيث من رورا ماريا

منذ نزولنا من الجبل والتنقل مستمر بين المواقع والقرى في منطقة ربما تكون بين الأجمل في البلاد .. منطقة تشابه كثيرا مناطق وقري عنسبا لعال حيث الجبال العالية والأودية الكثيرة المتناثرة هنا وهناك .. كلما تنقلنا في هذه المنطقة كلما زاد اعجابي بها وأكثر ما يميز هذه المنطقة كثرة الأودية وأغلبها يصب في خور سبر .. وكثرة الأودية تعني كثرة التلال والجبال  وهذا ما كان يشكل خط الدفاع الأول لدبر سالا فالموقع حصين طبيعيا ويتأكد لك ذلك عندما تتنقل في المناطق المحيطة به فهناك سلاسل من الجبال بكل الاتجاهات قبل ان تتمكن من الوصول الي دبر سالا وحتي اذا تمكنت من الوصول الى اطرافه فالصعوبة سوف تكون في الصعود وحتي اذا صعدت فالصعوبة سوف تكمن في ايجاد المكان فالجبل شاسع وفوقه تلال وجبال ولهذا استعصي الجبل وظل منيعا شامخا شموخ واستعصاء ابنائه .. وهنا كانت تكمن رمزية هذا الجبل في وجدان المقاتل الأرتري وقتها ... وفي تنقلنا الدائم بتلك النواحي وبينما كنا نهم لمغادرة احدي القرى أتى شيخ كبير ومعه ابنه وطلب التحدث مع المسؤول فينا وأعجبني هذا الأسلوب فالشيخ يود ان يكون حديثه مع المسؤول فقط كي يتأكد من وصول معلومالته .. ذهب اليه محمد عافة وابتعد به قليلا وبعد الحديث معهم عاد الينا قائلا بان الشيخ وابنه يقولون بأنهم شاهدوا من علي البعد جيشا متحركا ولم يتأكدوا عن طبيعة وتفاصيل  ذلك الجيش ولا يدرون ان كان للجبهة أم للعدو فقد كانوا بعيدين منهم .. والأتجاه الذي ذكروهوا هو نفس الأتجاه الذي نود الذهاب اليه .. هنا تعقدت الامور فلم يكن لنا علم او أي معلومات عن  تواجد وحدات بنفس المنطقة وعلينا فعل شيئ قبل ان نفاجا بما لا يحمد عقباه .. فتح محمد عافة اجتماعا سريعا لأخذ الأراء وكان يعجبني كثيرا في هذا الجانب حيث كان منفتحا علي أراء الأخرين وقراراته في معظم الأوقات كانت جماعية ... وبعد نقاش لم يدم طويلا  يقول الرأي الصائب الذي اتفق عليه الجميع وذلك  بان نسرع ونتوخي الحذر وان يرسل طوف من خمسة مقاتلين كوحدة استطلاع أمامية ثم يقسم بقية الفصيلة الي مجموعتين واحدة تتبع نفس خطي الطوف ذو الخمسة افراد من الناحية اليمني علي سفوح التلال  والأخري تكون محاذية من الناحية اليسري ... وعلي حسب معلومات الشيخ وابنه فان الوحدات كانت تتحرك في الوادي .. وانطلقنا مسرعين علي أمل أن نجد معلومات أكثر عن هذه الوحدات قبل غروب الشمس وهاهم فوج استطلاعنا المكون من خمسة أفراد انطلقوا مبتعدين عنا وبسرعة اتبع كل فرد الاوامر المعطاة من قائد الفصيلة وانهمك الجميع في المشي وكلنا عيون مبصرة واذان صاغية لكل حركة ولكل شاردة وواردة او أي شيئ مشبوه ظللنا نمشي والشمس تكاد في الأفول ولا خبر عن طوف الأستطلاع كل شيئ جائز وكل احتمال وارد والنفوس في حالة قسوة من الأستعداد واذا من البعد نشاهد غبارا متصاعدا .. الكل في المجموعة شاهد ذلك وطلب منا محمد عافة في الصعود الي التل أكثر وأكثر ولنأخذ مواقعنا حتي نتأكد من مصدر الغبار الخارج من وسط اشجار السدر الكثيفة .. أخذنا مواقعنا ولم يطل الأنتظار حتي سمعنا اصواتا من مكان الغبار واتضحت الأصوات قاطعة الشك وقليلا حتى شاهدنا أغنام الماعز "عطال" وهي مسرعة تعبر الوادي في طريقها الى القرية التى غادرناها تود الوصول قبل الغروب .. انطلق محمد عافة مسرعا نحو الراعي الذي فوجئ بوجودنا وتحدث اليه سائلا ان كان قد شاهد وحدات اخري غيرنا  ورد الراعي بتساؤل واستغراب عن ماذا في الامر ولماذا كل هذه الوحدات من الجبهة في هذا الوادي اليوم .. طمأنه محمد عافة قائلا بأنها مجرد صدفة في تجمعها وليس في الأمر ما يثير القلق وفي اثناء حديثه مع الراعي شاهد طوف الأستطلاع عائدا .. شكر الراعي وتركه يواصل في طريقه .. ووصل الطوف عائدا ومعلوماتهم تشير بان الوحدات التي شاهدها الشيخ وابنه تتبع للجبهة وانهم سوف يقضون ليلتهم بالقرب من الوادي ولقد تحدثوا معهم وأخطروهم بتواجدنا كذلك في المنطقة .. شكرهم محمد عافة علي ادائهم للمهمة باكمل وجه وكانت أخبار تفتحت لها اسارير وجوهنا وعمتنا الغبطة والفرحة .. هذا ما  كان المسؤلين في الجبل يتوقعونه اي تواجد وحدات من الجبهة في المنطقة ... طلب منا محمد عافة بالمواصلة في المسير رغم غروب الشمس حيث قال لا يعقل ان نكون في نفس القرية ونثقل علي المواطنين أكثر .. كان محمد عافة ذو تجربة وحنكة ودراية في أمور الميدان والنضال والتعامل مع المناضلين والمواطنين يضع لكل شيئ حساب ولا يخلط في الأمور .. لا يود أن يثقل علي المواطنين من نفس القرية ففضل أن نواصل المسير حتي القرية التالية هذه كانت ملاحظة والملاحظة الثانية انه عندما وصلنا القرية التالية طلب منا أن نعسكر خارج القرية بعيدا عن الوادي وهاتين الملاحظتين تنم عن وعي وادراك وفهم بالمسؤلية .. جهله بالقراءة والكتابة حينها لم ينقص من قيمته القيادية أو من تجاربه وخبراته الميدانية ... انه يدري جيدا بأن هناك وحدات قد عسكرت بتلك القرية وسوف تحتاج الي الماء والكلأ من مواطني تلك القرية وان عسكرنا بالقرب منهم في نفس القرية فهذا سوف يضاعف الضغط على المواطنين وربما يؤدي مع التكرار الي نفور المواطنين من استقبالنا وهذا ما تفاداه هذا القائد المسؤول .. اما الملاحظة الثانية فهو عندما أشار بالابتعاد عن الخور كان يسوقه في ذلك حدثه كابن الريف القريب من الطبيعة وتقلباتها .. كابن الريف المتتبع والملاحظ للتغيرات الموسمية وما يجب التحوط منه .. تذكرت هذه الملاحظة وأيغنت وأدركت معناها ومدلولاتها في اليوم التالي عندما كنا نعبر خور كوكلاي وهو من الخيران الرافدة لسبر كانت السماء غير ملبدة بالسحاب وكان اللون الأزرق طاغيا في السماء وشمس العصرية قوية لافحة كنت قريبا من المؤخرة حيث كان زميل واحد خلفي .. ونحن نعبر في الخور الجاف ذو الرمال الناصعة البياض ألاحظ مقدمة متحركة في شكل رأس ثعبان ضخم مسرعة بالتواءات وتعرجات والراًس يحمل "قُفوف" اي زَبدُ الماء وأسمع صياح الرفاق متعاليا يطلبوا منا بالأسراع والخروج وتطاير قلبي عندما شاهدت ما خلف ذلك الراس من الزَبَدِ ياللمصيبة انه سيل جارف يحمل الحجر والشجر .. تتلاطم أمواجه .. المفر المفر ونحن نسرع ونركض الي الناحية الثانية من الخور الثائر والهائج .. حمدا لله خرجنا أنا وزميلي سالمين غير مصدقين لما نراه .. لا يُصَدَقُ ما يحمله هذا السيل العرمرم وقفنا مدهوشين نشاهد هذا المارد وهو يدحرج كل هذه الأثقال بجبروت وعنفوان رغم أنه لم تصب علينا قطرة من الماء .. فلا أمطار ولا رعد ولا هدود لكن وللذي يشاهد بعيدا فوق جبال الماريا يرى السماء داكنة ملبدة بالسحب الثقال .. وهاهو محمد عافة ابن الريف المُلِمُ بخبايا وأسرار المواسم أدرك ذلك ومنعنا من المبيت في الخور احساسا منه بالمسؤلية وحفاظا علي أروحنا وكم من الشهداء البواسل جرفهم السيل في مختلف بقاع الوطن فالطبيعة الجبلية للبلاد وعدم خبرة أبناء المدن من المناضلين في هذه النواحي أدي لكثير من الحوادث فقدنا علي اثرها خيرة الشباب .. مكثنا في كوكلاي ونحن نتابع التدفق الكاسر لهذا الوادي ورغبتنا في أن نشاهده يهدأ ونتأكد من ذلك قبل الأنطلاق لأن أمامنا أودية موسمية أخري وسوف تكون بنفس الشأن والمقدار وهذه أيضا كانت من نصائح قائدنا محمد عافة.. وفي تلك الأثناء وبينما نحن جالسين بالقرب من الوادي صار أحد المقاتلين وهو كبير في السن يحكي لي عن قريته القابعة في السلسلة الجبلية العالية التي نشاهدها من علي البعد والتي كانت مصدر هذا الغيث الذي فاض به كوكلاي متدفقا .. قال انه من أسماط وصار يشوقني بتلك المنطقة بأسماط والطريق المؤدي اليها بدءا  بمتكل أبي فحلحل فيشو ثم ماي أوالد ثم ملبسو متبوعة برهيي وكيف ان هذه المناطق توازي الجبل جمالا وبهاءا وكيف ان الأخضرار هو السمة الطاغية لتلك المناطق وذكر لي معلومة كنت لا أعرفها  قال عندما تتحدث الناس عن رورا ماريا لا يدرون بأن حلحل ومتكل أبي وماي أوالد جزء من رورا ماريا  وهي المناطق الناطقة بالبلين وذكر كذلك بأن السيارات كانت تأتي من كرن ذاهبة الي حلحل ومواصلة حتي أسماط مرورا بكل المناطق سالفة الذكر... شوقني هذا المناضل لتلك الجبال الشامخات .. وهاهو كوكلاي يهدأ ونزلنا في أطرافه نغسل وجوهنا ونملأ زمزمياتنا وما أجمل مياهه بعد الهدوء مغرورغة تشاهد من تحتها ومن خلالها الرمال هادئة ناعمة ويا للفرق بين الأن وبين تلك اللحظات التي نجونا فيه بأجسادنا ونحن غير مصدقين .. كوكلاي هذا الذي جمع بين العنفوان والهدوء ترك أثاره عميقة محفورة في أعماقي لا تنسي رغم وجود النسيان ولا تنسي رغم تراكم السنين.
ونواصل ......

Saturday, March 28, 2015

محاز سبر ودبر معر



 
صارت العيادة المركزية مستقطبا للمارين من بركا الى الساحل أو كذلك من المناطق الأخري متجهين  الى بركا وأعداد النزلاء في ارتفاع كل يوم وصرنا جراء ذلك نعاني نقص في المواد التموينية "الامداد كما يقال في الميدان" ... كمية السكر والزيت التي تعطى لنا صارت كل يوم في تناقص فرغم الشح والعسر المعتاد عليه في الامداد الا ان الامور صارت  تتفاقم نحو الأسوأ كما ان المعلومات صارت تتوالي بقرب خروج العدو من مدينتي كرن وأغردات في اتجاه دبرسالا ... أمور كثيرة صارت تتبدل لكن الشيئ الوحيد الذي لا يتبدل ولا يتغير هو المعنويات العالية التي تتجلي في التفاني والتعاضد والتاثر وجو الأخاء والرفاقة ووحدة المصير الجو المفعم بالحب والمرح كان يساعدنا على تجاوز الصعاب وكنا نركز علي الايجابي من الامور والأشياء  ..ومن المؤكد بان المسؤولين في صدد فعل شيئ أو التخطيط لشيئ ما كما عودونا في كل المواقف التي تحتاج الي دراسة وتمعن .. وكما توقعت  فقد صدق ظني بهم .. لقد دعينا الي اجتماع موسع للسرية وادارة العيادة والقيادة المتواجدة .. جل الحديث تركز علي صعوبة المرحلة وعلي كيفية تجاوزها والعبور الي مرحلة أفضل وهناك حزم (بكسر الحاء وفتح الزين) من الأمور علينا تنفيذها .. منها تقشفي ومنها عسكري يجعلنا في موقف المبادرة عوضا عن انتظار العدو في الجبل وكذلك التنسيق مع الوحدات الأخري في المنطقة .. وعلي ضوء هذه الحزم من القرارات يتوجب نزول فصيلتنا الي الاتجاه الشمالي للشرقي من الجبل كفصيلة استطلاع وتنسيق مع الوحدات الأخري وذلك للتحوط وأخذ السبق اذا خرج العدو من اتجاه مدينة كرن اما الفصيلة الثانية فسوف تنزل من الجبل باتجاه بركا وتنتقل بالمنطقة منسقة مع الوحدات الأخري المتواجدة هناك وذلك لتوخي الحذر اذا خرج العدو من مدينة اغردات وكذلك لدرء العدو من الخروج فالتواجد المستمر للوحدات بضواحي المدينة وحصول العدو علي تلك المعلومات ربما يمنعه من التفكير في الخروج وعوضا عن ذلك يفكر في التمترس بداخل المدينة .. اما الفصيلة الثالثة فسوف تبقى مكانها بالجبل وبهذه الخطة تضرب الفيادة عدة عصافير بحجر واحد .. أعجبني ما سمعت فقد كنت متشوقا للنزول من الجبل خصوصا في اتجاه الشمال الشرقي حيث يجعلني ذلك استنشق عليل ضواحي كرن .. وكم كنت سعيدا عندما علمت بأن الفصيلة الاولي سوف تنزل باتجاه رورا ماريا وترابط حوالي الجبل من ذلك الأتجاه ... خطط جميلة كلها في المجمل أما في التفاصيل فسوف نعتمد علي قدرة المواطنين لتحمل الأعداد المتذايدة من المناضل في مناطقهم ولفترات طويلة قعندما تكون في حراك دائم يكون أعتمادك علي المواطنين في المواد التموينية وأحيانا المواطنين نفسهم تكون ظروفهم المعيشية متعسرة أو يكون مطحون الذرة غير كافي أو ليس هناك من يطحن الذرة لعمل العصيدة للمناضلين ربما تكون بيت أو بيتين وعندما تحضر فصلية أو فصيلتين يصعب علي العائلة أو العائلتين اطعامهم .. كانت القري الكبيرة هي وحدها القادرة علي اطعام واسقاء الأعداد الكبيرة في أن واحد .. أن المواطنين في الريف تحملوا أكثر من طاقتهم وفعلوا أكثر من قدرتهم وساهموا بأكثر من نصيبهم من أجل أن تكبر الثورة ويشتد عودها ويذداد انتشارها وتوسعها .. المواطنين في الريف هم الذين حموا الثورة عندما كانت يافعة تحتاج الحماية وهم الذين أطعموها عندما كانت ضعيفة تحتاج الأطعام والسقاية وهم الذين مكنوها عندما كانت تحتاد التمكين والعناية .. لن أوفي ولن يوفي أحدا للريف حقه مهما قيل من الكلام .. بعد انفضاض الأجتماع الكل كان سعيدا والكل كان متحمسا للخطوة التالية .. لقد أحسنت قيادتنا وأعني المتواجدة في الجبل أحسنت في التفاعل مع الأحداث والتطورات الميدانية واتخذت الصائب من القرارات التي أظهرت لاحقا بعد نظرهم في الرؤيا والتخطيط وللأسف لم تستفد الجبهة كثيرا من هؤلاء الشبان في المراحل اللاحقة .. بدأت الحركة تدب في فصيلتنا في التجهيز والأستعداد للنزول .. أعتقدت وحدي من كان يحب النزول من الجبل والتنقل والحركة الدائمة في الأماكن المختلفة لكن هؤلاء كل زملائي لهم نفس الانطباع والشعور .. دبت الحركة وترا الناس مشغولة كلها .. جزء يغسل وجزء يحيك في الملابس الممزقة وجزء يرقع في الحذاء البلاستيكي القديم "الشدة" ويضيفوا عليه طبقة أخري من الأسفل وذلك بقطع الجانب الأسفل من حذاء أقدم ورقعها في الحذاء بواسطة سكين ساخنة .. الكل يعمل شيئا للأستعداد وخلال يومين نحن في أتم الأستعداد والأسلحة قد نظفت والذخيرة قد زيدت لكل فرد والنفسيات تعانق السماء علوا وارتفاعا .. وفي ذلك الصباح الجميل الباهي تحرك الجمع وأنطلقنا في المسير وهذه المرة ينتابني شعور وأحساس يختلف عن المرات السابقة التي ذهبت فيها لمهام أخري .. هذه المرة تختلف كثييرا عن المرات السابقة فهذه المرة نحن في صدد النزول من الجبل الي مناطق جديدة الي عالم جديد لم أحلق بفضائة قط .. بدأنا المسير في خط سير طويل وممتد ذو تعرجات ومسافات بين الأفراد .. أحب المشي في المقدمة لكني وضعت بالقرب من المؤخرة لكن لا علي ولا أبالي فخط السير هو هو نفسه .. ذهبنا طويلا حتي بدأت معالم الأنحدار والنزول تتجلي وعبق النسيم البارد يهب ومن علي البعد أري جبالا متراصة شامخة العلو وأتساءل عن اسمها فيقال لي بأنها "رورا ماريا" أي هضبة جبال الماريا وهي المرة الأولي التي اكون فيها وجها لوجه مع رورا ماريا ولا أدري ما السر في تسمية الهضاب بالقبائل فنقول رورا بيت قبرو.. رورا منسع.. رورا حباب وعندما يكون الحديث عن المرتفعات نقول "كبسا" أي الهضبة اجمالا عن كل المرتفعات وليس كبسا حماسين أو كبسا أكلوقزاي أو كبسا سرايي ففي التقرايت نفصل وفي التقرانيا نجمع لا أدري ما السر في ذلك ولكن منظر الرورا كان مهيبا من علي البعد يجلجل النفس ويرغمك علي التقدير والأعجاب ودون أن تدري تقول ياسلام ياسلام .. واصلنا النزول طول النهار وفي المساء وعند غروب الشمس وصلنا أعتاب الجبل وبمواجهة دبر معر وفي الجانب العلوي من خور سبر وهنا أيضا ترغم علي أن تقول مرة أخري يا سلام  يا سلام .. دبر معر جبل واحد لكنه شاهق جدا ومرعب تخيل صعوده .. أحساس جميل أنتابني بعد وصولنا لأول قرية أراها من مدة .. عسكرنا خرج القرية وذهب ثلاثة منا للقرية ليأتوا بالماء والنار وليشعرو أهلها بأننا في حوجة لكلأ نأكله .. كان ذلك أول مبيت لنا في "سبر لعال" أعالي سبر تحت أقدام دبر معر الشاهق ومن عل البعد رورا ماريا وفي أسفل السفح من دبر سالا.      
  

ونواصل ........      

Wednesday, March 25, 2015

تسليح وتخزين واستعداد




 
منذ قدوم قائد المجموعة الجديد عبدالله وعمليات التدريب قد تكاثفت واشتدت وتيرتها فالرجل يعلم الكثير من التيكتيكات الحربية وفنون القتال وصار لنا روتين اسبوعي للتدريب وصار نفس الروتين مطبقا في المجموعات الاخري وبينما نحن في غمرة هذه الوتيرة تأتي من قائد السرية أوامر لكل فصيلة بأن تهيئ وتجهز مجموعة من المقاتلين وسوف يطلب منهم  الذهاب في مهمة خاصة ولهذا الخصوص طلب قائد فصيلتنا اجتماعا طارئا وفي الجتماع تم اختيار المجموعة التي كنت من ضمن من وقع الأختيار عليهم وهكذا اكملت فصيلتنا تجهيز مجموعتها وكذلك فعلت باقي الفصيلتين ولقد نورنا بطبيعة المهمة والتفاصيل المحيطة بها ... محمد عافة قائد فصيلتنا سوف يقود المهمة بنفسه وهاكذا وفي صباح اليوم التالي وتحت قيادته انطلق الجمع وكنا حوالي العشرين مناضلا وكنت مغرما في المش في الصباح الباكر لما يعطيك من النشاط والحيوية وذلك العنفوان مع بزوغ الفجر والفضاء الفسيح وحبات الرزاز من الندي تغطي العشائش والاعشاب وأشجار "التسس" شديدة الخضرة وكانها اغتسلت لليوم الجديد انها تبدوا أكثر بريقا وبهاءا ... حيوية الصبح الجديد تحسها في كل ما حولك من أصوات العصافير وتراقصها وانطلاقاتها بين الأشجار وتشمها في روائح وعبق النباتات المختلفة وتغوص نفسك في ذلك الرونق الأبدي من الشفق المتداخل احمرارا والمتناغم جمالا ... ما أحلي الصباح في تلك الجبال لوحة مبدع خالق يستحيل تقليدها ويذيد عشقك لها مع مرور الوقت وتظل كالولهان متعطشا للمزيد منها ودوما متعلق بها .. كنت قد سرحت مع الطبيعة وتأملي فيها وغصت في دواخل نفسي متمعنا متلمسا اغوارها وما ايغظني من ذلك الا تعثر زميلي الذي كان امامي وأخر يعاتبه "عنك يتفتح .. قدميك يتقنح" اي اما أفضل لك أن تفتح عيناك وتري جيدا أمامك ... وبعد الفيقة من السرحان صرت أباطئ في المشي حتي يلحق بي محمد عافة الذي كان في المؤخرة  خلفي وقد لحق بي وهو قائلا مالك اليوم وانت تبطئ في المشي قلت مازحا حتي لا تكون لوحدك في المؤخرة ضحك وأردف قائلا علينا ان نكمل بسرعة هذه المهمة ونكون جاهزين قلت جاهزين لماذا قال هناك معلومات مفادها بان العدو ربما يخرج من أغردات أو من كرن أو من الأثنين معا وعلينا ان نكون جاهزين وحذرين لكل الأحتمالات وهو ربما لأول مرة يحاول الخروج لدبرسالا قلت ان فعلوا ذلك فربما تكون دبرسالا مقبرتهم فلا يمكنهم المغامرة في مكان لا تستطيع سياراتهم بالوصول اليه قال ندري ذلك لكن ربما يحاولون يائسين الخروج الى الجبل ... ونحن نتحدث واذا بصوت من المقدمة يعلو"ارتكز .. ارتكز ... ارتكز" وارتكزنا جميعا ما عدا محمد عافة الذي هرول مسرعا الي المقدمة ليستطلع الامر وكان قائد احدي الجموعات في المقدمة وطلب محمد عافة من اثنين من الجنود ان يسرعوا في الاتجاهين ويستطلعوا الأمر وصار واضحا مصدر الصوت العالي الذي يشبه هدود السحب الداكنة قبل نزول المطر ... الزميلين اللذين خرجا للاستلاع أكدا بانها أبقار الرعاة وعلينا ان نبتعد عن طريقهم فالأبقار شرسة عندما لا تطمئن ولا تأمن من  هم حولها ولا يجب المخاطرة وعند أوامر محمد عافة صعدنا قليلا مبتعدين عن طريقها وفي المؤخرة كان الراعي الذي تبادل التحايا مع محمد عافة ثم واصلنا في طريقنا وصرت لحالي بالمؤخرة بعد ان واصل محمد عافة مع مجموعة المقدمة كنت أود ان أأخذ تفاصيل أكثر عن مهمتنا هذه من محمد عافة والان وهو في مجموعة المقدمة علي التمهل حتى تتضح كل التفاصيل لاحقا ... بعد مشوار قرابة النصف يوم وصلنا الى الموقع المحدد والذي فيه من المفترض ان نلتقي بمجموعة اخري من المقاتلين القادمين من بركا ومعهم جمالا محملة بالأسلحة ... ربما وصلنا قبلهم فلا أحد هنا .. أرسل محمد عافة تلاتة أفراد للاستطلاع والحراسة معا واستظللنا تحت الظل الباسق لشجرة الجميز الكبيرة ذات الأغصان العريضة .. انها شجرة ضخمة وظليلة وهي نقطة التعارف والموقع المتفق عليه .. جلست قريبا من سليمان الكردفاني الذي تمرس كثيرا في مثل هذه المهام تبادلنا التحايا وبدأنا نحكي قال من الطبيعي جدا أن لا تصل المجموعتان في نفس الوقت لأن كل منها قادم من اتجاه مختلف ثم انهم عادة يتأخروا لأن معهم الجمال وكذلك هم في طريق الصعود للجبل وهذه عوامل تجعلهم يتأخروا وأردف في حديثه قائلا بان ذلك يعطينا وقتا ومجالا للراحة والاسترخاء قبل قدومهم ونحن في أمس الحاجة لذلك ... لقد وصلوا قبل أفول الشمس بقليل وسمعت محمد عافة يقول بان هذا انسب وقت للجميع... أنزلنا الأمتعة من الجمال بسرعة وانطلقوا عائدين ... الأن وكما ذكر القائد محمد عافة مهمتنا تتلخص في ثلاثة أقسام .. مجموعة سوف تذهب الي موقع التخزين وتبدأ في الحفر وأدوات الحفر مدفونة هناك ومجموعة ثانية سوف تبدأ في حمل ونقل صناديق الأسلحة والتي كما سمعت قادمة من سوريا أما المجموعة الثالثة فمهمتها الحراسة وهكذا تم تقسيم المهام بين المجموعات ونصيبي كان مع مجموعة الحفر وطلب مننا ان نحمل  جزءا من الصناديق ونحن في طريقنا الي الموقع وكذلك فعلنا وما أثقلها من صناديق وكان سليمان يعلم الموقع جيدا وكذلك يعلم الموقع التي دفنت في أدوات الحفر فقد قام بهذا الدور سابقا .. بدانا في الحفر مع غروب الشمس وكانت فكرة سليمة حيث الحفر في هذه الأرض الصلبة يحتاج جهدا جبارا وجو المساء البارد وكذلك عتمة الليل وفرا لنا الجو المناسب للعمل .. تناوبنا في الحفر بالمقايس التي رسمت من قبل ووضعنا شوالات البلاستيك وغطينا الأرضية تماما ثم بدأنا ننزل في صناديف الأسلحة واحدة بعض الأخري نفس النوعية ونفس المقاسات سويا وفي حفر منفصلة وهناك زميل يأخذ البيانات والكمية وعدد الحفر ومابكل حفرة وكنا نسرع من أجل ان نكمل في وقت قصير .. كان الظلام دامسا والعتمة كاملة وكنا نستعين بنور البطاريات وذلك عند الضرورة فقط حيث لا نود جلب أي أنتباه أو اهتمام أي شخص حتي وكل شيئ كان يسير بتسارع كما أردنا له حتي أتي أحد أحد الزملاء من مجموعة الأستطلاع مسرعا مهرولا يبحث القائد محمد عافة ان هناك أصواتا وحركة شديدة من علي البعد عندها طلب منا التوقف وأخذ مواقعنا في الاستعداد لاي طارئ .. أخذنا مواقعنا والظلام يكاد بعتمته يغطي كل شيئ رغم ذلك أخذنا مواقعنا في المواقع المرتفعة من المكان والأصوات تشتد وتذداد أرتفاعا وهنا كل شيئ متوقع خصوصا وأنها عملية يجب أن تكون في غاية السرية والكتمان لكن رغم ذلك لا ندري ما مصدر هذه الأصوات .. نزلت مجموعة لتقترب أكثر من مصدر الأصوات كي لا نؤخذ بحين قرة وصوتها يذداد ارتفاعا مع حركة الحشائش والأشجار وأحيانا الصخور الصغيرة .. تعالت الأنفاس وعم الغموض والحيرة حتي سمعنا صوتا طمأن الجميع وبدأ الضحك يتعالي من كل اتجاه .. انها الأبقار "أحي مهسي" الأبقار التي تعلف عادة في الليل ... ضحكنا طويلا وطلبنا من الراعي أن يبعد أبقاره من تلك المنطقة وفعل وعدنا مكملين لعملنا مع طاقة جديدة ومرح اكتسبناه من تبدد هذا التوتر المؤقت .. أكملنا عملنا وأعدنا التربة والحشاثش والأحجار الصغيرة التي كنا قد أزلناها مؤقتا وأعدنا كل المظاهر السطحية لموقعها بشكل مرضي وقضينا بقية ليلتنا في نفس الموقع .. وفي الصباح الباكر وفي ذلك الوقت المفضل للجميع بدأنا في طريق العودة الي المعسكر.  



ونواصل ........