منذ نزولنا من الجبل والتنقل مستمر بين المواقع والقرى في منطقة ربما
تكون بين الأجمل في البلاد .. منطقة تشابه كثيرا مناطق وقري عنسبا لعال حيث الجبال
العالية والأودية الكثيرة المتناثرة هنا وهناك .. كلما تنقلنا في هذه المنطقة كلما
زاد اعجابي بها وأكثر ما يميز هذه المنطقة كثرة الأودية وأغلبها يصب في خور سبر ..
وكثرة الأودية تعني كثرة التلال والجبال وهذا ما كان يشكل خط الدفاع الأول
لدبر سالا فالموقع حصين طبيعيا ويتأكد لك ذلك عندما تتنقل في المناطق المحيطة به
فهناك سلاسل من الجبال بكل الاتجاهات قبل ان تتمكن من الوصول الي دبر سالا وحتي
اذا تمكنت من الوصول الى اطرافه فالصعوبة سوف تكون في الصعود وحتي اذا صعدت
فالصعوبة سوف تكمن في ايجاد المكان فالجبل شاسع وفوقه تلال وجبال ولهذا استعصي
الجبل وظل منيعا شامخا شموخ واستعصاء ابنائه .. وهنا كانت تكمن رمزية هذا الجبل في
وجدان المقاتل الأرتري وقتها ... وفي تنقلنا الدائم بتلك النواحي وبينما كنا نهم
لمغادرة احدي القرى أتى شيخ كبير ومعه ابنه وطلب التحدث مع المسؤول فينا وأعجبني
هذا الأسلوب فالشيخ يود ان يكون حديثه مع المسؤول فقط كي يتأكد من وصول معلومالته
.. ذهب اليه محمد عافة وابتعد به قليلا وبعد الحديث معهم عاد الينا قائلا بان
الشيخ وابنه يقولون بأنهم شاهدوا من علي البعد جيشا متحركا ولم يتأكدوا عن طبيعة
وتفاصيل ذلك الجيش ولا يدرون ان كان للجبهة أم للعدو فقد كانوا بعيدين منهم
.. والأتجاه الذي ذكروهوا هو نفس الأتجاه الذي نود الذهاب اليه .. هنا تعقدت الامور
فلم يكن لنا علم او أي معلومات عن تواجد وحدات
بنفس المنطقة وعلينا فعل شيئ قبل ان نفاجا بما لا يحمد عقباه .. فتح محمد عافة
اجتماعا سريعا لأخذ الأراء وكان يعجبني كثيرا في هذا الجانب حيث كان منفتحا علي أراء
الأخرين وقراراته في معظم الأوقات كانت جماعية ... وبعد نقاش لم يدم طويلا
يقول الرأي الصائب الذي اتفق عليه الجميع وذلك بان نسرع ونتوخي الحذر وان يرسل طوف من خمسة
مقاتلين كوحدة استطلاع أمامية ثم يقسم بقية الفصيلة الي مجموعتين واحدة تتبع نفس
خطي الطوف ذو الخمسة افراد من الناحية اليمني علي سفوح التلال والأخري تكون
محاذية من الناحية اليسري ... وعلي حسب معلومات الشيخ وابنه فان الوحدات كانت
تتحرك في الوادي .. وانطلقنا مسرعين علي أمل أن نجد معلومات أكثر عن هذه الوحدات
قبل غروب الشمس وهاهم فوج استطلاعنا المكون من خمسة أفراد انطلقوا مبتعدين عنا
وبسرعة اتبع كل فرد الاوامر المعطاة من قائد الفصيلة وانهمك الجميع في المشي وكلنا
عيون مبصرة واذان صاغية لكل حركة ولكل شاردة وواردة او أي شيئ مشبوه ظللنا نمشي والشمس تكاد
في الأفول ولا خبر عن طوف الأستطلاع كل شيئ جائز وكل احتمال وارد والنفوس في حالة
قسوة من الأستعداد واذا من البعد نشاهد غبارا متصاعدا .. الكل في المجموعة شاهد
ذلك وطلب منا محمد عافة في الصعود الي التل أكثر وأكثر ولنأخذ مواقعنا حتي نتأكد
من مصدر الغبار الخارج من وسط اشجار السدر الكثيفة .. أخذنا مواقعنا ولم يطل
الأنتظار حتي سمعنا اصواتا من مكان الغبار واتضحت الأصوات قاطعة الشك وقليلا حتى
شاهدنا أغنام الماعز "عطال" وهي مسرعة تعبر الوادي في طريقها الى القرية
التى غادرناها تود الوصول قبل الغروب .. انطلق محمد عافة مسرعا نحو الراعي الذي
فوجئ بوجودنا وتحدث اليه سائلا ان كان قد شاهد وحدات اخري غيرنا ورد الراعي
بتساؤل واستغراب عن ماذا في الامر ولماذا كل هذه الوحدات من الجبهة في هذا الوادي
اليوم .. طمأنه محمد عافة قائلا بأنها مجرد صدفة في تجمعها وليس في الأمر ما يثير
القلق وفي اثناء حديثه مع الراعي شاهد طوف الأستطلاع عائدا .. شكر الراعي وتركه
يواصل في طريقه .. ووصل الطوف عائدا ومعلوماتهم تشير بان الوحدات التي شاهدها
الشيخ وابنه تتبع للجبهة وانهم سوف يقضون ليلتهم بالقرب من الوادي ولقد تحدثوا
معهم وأخطروهم بتواجدنا كذلك في المنطقة .. شكرهم محمد عافة علي ادائهم للمهمة
باكمل وجه وكانت أخبار تفتحت لها اسارير وجوهنا وعمتنا الغبطة والفرحة .. هذا ما
كان المسؤلين في الجبل يتوقعونه اي تواجد وحدات من الجبهة في المنطقة ...
طلب منا محمد عافة بالمواصلة في المسير رغم غروب الشمس حيث قال لا يعقل ان نكون في
نفس القرية ونثقل علي المواطنين أكثر .. كان محمد عافة ذو تجربة وحنكة ودراية في أمور
الميدان والنضال والتعامل مع المناضلين والمواطنين يضع لكل شيئ حساب ولا يخلط في
الأمور .. لا يود أن يثقل علي المواطنين من نفس القرية ففضل أن نواصل المسير حتي
القرية التالية هذه كانت
ملاحظة والملاحظة الثانية انه عندما وصلنا القرية التالية طلب منا أن نعسكر خارج القرية بعيدا عن الوادي وهاتين الملاحظتين تنم عن
وعي وادراك وفهم بالمسؤلية .. جهله بالقراءة والكتابة حينها لم ينقص من قيمته
القيادية أو من تجاربه وخبراته الميدانية ... انه يدري جيدا بأن هناك وحدات قد
عسكرت بتلك القرية وسوف تحتاج الي الماء والكلأ من مواطني تلك القرية وان عسكرنا
بالقرب منهم في نفس القرية فهذا سوف يضاعف الضغط على المواطنين وربما يؤدي مع
التكرار الي نفور المواطنين من استقبالنا وهذا ما تفاداه هذا القائد المسؤول .. اما
الملاحظة الثانية فهو عندما أشار بالابتعاد عن الخور كان يسوقه في ذلك حدثه كابن
الريف القريب من الطبيعة وتقلباتها .. كابن الريف المتتبع والملاحظ للتغيرات
الموسمية وما يجب التحوط منه .. تذكرت هذه الملاحظة وأيغنت وأدركت معناها
ومدلولاتها في اليوم التالي عندما كنا نعبر خور كوكلاي وهو من الخيران الرافدة
لسبر كانت السماء غير ملبدة بالسحاب وكان اللون الأزرق طاغيا في السماء وشمس
العصرية قوية لافحة كنت قريبا من المؤخرة حيث كان زميل واحد خلفي .. ونحن نعبر في
الخور الجاف ذو الرمال الناصعة البياض ألاحظ مقدمة متحركة في شكل رأس ثعبان ضخم
مسرعة بالتواءات وتعرجات والراًس يحمل "قُفوف" اي زَبدُ الماء وأسمع صياح
الرفاق متعاليا يطلبوا منا بالأسراع والخروج وتطاير قلبي عندما شاهدت ما خلف ذلك
الراس من الزَبَدِ ياللمصيبة انه سيل جارف يحمل الحجر والشجر .. تتلاطم أمواجه ..
المفر المفر ونحن نسرع ونركض الي الناحية الثانية من الخور الثائر والهائج .. حمدا
لله خرجنا أنا وزميلي سالمين غير مصدقين لما نراه .. لا يُصَدَقُ ما يحمله
هذا السيل العرمرم وقفنا مدهوشين نشاهد هذا المارد وهو يدحرج كل هذه الأثقال
بجبروت وعنفوان رغم أنه لم تصب علينا قطرة من الماء .. فلا أمطار ولا رعد ولا هدود
لكن وللذي يشاهد بعيدا فوق جبال الماريا يرى السماء داكنة ملبدة بالسحب الثقال ..
وهاهو محمد عافة ابن الريف المُلِمُ بخبايا وأسرار المواسم أدرك ذلك ومنعنا من
المبيت في الخور احساسا منه بالمسؤلية وحفاظا علي أروحنا وكم من الشهداء البواسل
جرفهم السيل في مختلف بقاع الوطن فالطبيعة الجبلية للبلاد وعدم خبرة أبناء المدن
من المناضلين في هذه النواحي أدي لكثير من الحوادث فقدنا علي اثرها خيرة الشباب ..
مكثنا في كوكلاي ونحن نتابع التدفق الكاسر لهذا الوادي ورغبتنا في أن نشاهده يهدأ
ونتأكد من ذلك قبل الأنطلاق لأن أمامنا أودية موسمية أخري وسوف تكون بنفس الشأن
والمقدار وهذه أيضا كانت من نصائح قائدنا محمد عافة.. وفي تلك الأثناء وبينما نحن
جالسين بالقرب من الوادي صار أحد المقاتلين وهو كبير في السن يحكي لي عن قريته
القابعة في السلسلة الجبلية العالية التي نشاهدها من علي البعد والتي كانت مصدر
هذا الغيث الذي فاض به كوكلاي متدفقا .. قال انه من أسماط وصار يشوقني بتلك
المنطقة بأسماط والطريق المؤدي اليها بدءا بمتكل أبي فحلحل فيشو ثم ماي أوالد ثم ملبسو
متبوعة برهيي وكيف ان هذه المناطق توازي الجبل جمالا وبهاءا وكيف ان الأخضرار هو
السمة الطاغية لتلك المناطق وذكر لي معلومة كنت لا أعرفها قال عندما تتحدث الناس عن رورا ماريا لا يدرون
بأن حلحل ومتكل أبي وماي أوالد جزء من رورا ماريا وهي المناطق الناطقة بالبلين وذكر كذلك بأن
السيارات كانت تأتي من كرن ذاهبة الي حلحل ومواصلة حتي أسماط مرورا بكل المناطق
سالفة الذكر... شوقني هذا المناضل لتلك الجبال الشامخات .. وهاهو كوكلاي يهدأ ونزلنا
في أطرافه نغسل وجوهنا ونملأ زمزمياتنا وما أجمل مياهه بعد الهدوء مغرورغة تشاهد من تحتها ومن خلالها
الرمال هادئة ناعمة ويا للفرق بين الأن وبين تلك اللحظات التي نجونا فيه بأجسادنا
ونحن غير مصدقين .. كوكلاي هذا الذي جمع بين العنفوان والهدوء ترك أثاره عميقة
محفورة في أعماقي لا تنسي رغم وجود النسيان ولا تنسي رغم تراكم السنين.
ونواصل ......
No comments:
Post a Comment