Saturday, February 14, 2015

سرية الحراسة



قضيت أسبوعي الأول في في المعسكر مع مجموعة الخدمات تحت قيادة مسمر وبدأت تدريجيا بالتأقلم مع نمط الحياة وايقاع ووتيرة العمل اليومي وذلك الجهد الصباحي في جمع الماء والحطب وبقية المهام اليومية التي كانت تنحصرعلي خدمة المرضي والمجرحيين بالمستشفي (العيادة المركزية) .... كان عملا دؤوبا متواصلا يجعلك تحتك بشكل يومي مع المناضلين  وتقف علي احتياجاتهم اليومية وتشاطرهم ذكرياتهم وتمرح معهم لتخفف عنهم ... وأكثر ما كانوا يعانون منه  بالأضافة الي حالتهم الصحية صعوبة الحياة ونوعية الغذاء وعدم توفر اسرة ومراقد تناسب حالات المرضي والجرحي لكن ليس باليد حيلة فأوضاع الجبهة حينها لم تكن بالمستوي الذي يسمح بذلك وطبيعة النضال في ذلك الوقت من كر وفر والتنقل الدائم وعدم وجود معسكرات دائمة كما حصل في المراحل اللاحقة من النضال المسلح ...
احببت عملي ووضعي الجديد وتقاطعت خطوط علاقاتي مع الكثيرين بالمعسكر وكان لي مكان مفضل اجلس فيه عند الغروب تسترخي فيه ذاتي وتذوب فيه حواسي مع المكان جمالا ومع الأفق تمددا.. ذلك المكان كان أية من الجمال وقمة في الروعة ... جمال لا يوصف الا أن تشاهده ... لقد كنت أشاهد من موقعي العالي تدرج الجبال نزولا الي بركا في تسلسل ورونق عجيب ... جبل خلف جبل وعلو القمم في تناقص حتي تنزل الي سهول بركا وزد الي هذا التناقم الطبيعي غروب الشمس وشفقها المرسل الي التلال والروابي صعودا الي القمم الشاهقات ليجعله منظرا خلابا كان يتسمر فيه قلبي كل مساء ... كذلك من نفس الموقع كنت اشاهد مجموعة جبال همبول ... كتلة صخرية داكنة من علي البعد تحيطها سهول بركا من كل اتجاه .... مناظر صارت عالقة بذهني ومخيلتي حتي اليوم رغم مرور اربعة عقود ونيف عليها ... انني متأكد بان يوما ما سوف تكون هذه الاماكن مناطق سياحية .. منتجعات ومحميات وطنية .....
كان الوقت صباحا وكانت كل مهامي الصباحية قد اكتملت وكنت مستغرقا في التفكير في أمور شتي واذا بأحد رفاقي في المجموعة يطلب مني الحضور خلفه فتبعته حتي أتينا الي احدي الأشجار كان يجلس عندها في حلقة قائد سرية الحراسة والمناضل صباح الخير والشهيد ادريس عمر ... طلبوا مني بالجلوس ... وأعتقد بانه كان اجتماع روتيني فيه قرروا ضمي الي سرية الحراسة وعملا بالتوجيه الجديد التحقت بالفصيلة الاولي لسرية الحراسة التي قوبلت فيها بالترحاب الشديد .. واذكر قائد مجموتنا في الفصيلة كان اسمه عبدو وكان قليل الكلام وذو ملامح صارمة قل ما تراه يضحك او يضع ابتسامة في وجهه .. أما بقية افراد المجموعة كانو بسيطين تملأهم الهمة والحماس في اداء واجباتهم ... لقد كان الايقاع وجو الحياة العام أثقل من ذلك الذي تعودت عليه مع مجموعة الخدمات مجموعة مسمر ذو الروح المبدعة ... مسمر كان عالما ودنيا بحاله وكان الرجل المناسب في المكان المناسب يبتسم للجميع ووجهه مشرقا دائما كان خدوما لا يتردد في اسداء خدمة لأي شخص يحتاجها .. تعودت علي ذلك الجو  لكن الأن علي ان أتعود وان اتأقلم مع عبدو وذلك جزء من النضال .. قائد الفصيلة كان اسمه محمد عافه وكان رجل بسيط يحترم الأخرين ومهذب شديد التواضع يحاول التوفيق بين الجميع .. عبدو كان الوحيد الذي لا يغرد مع السرب فكنت أحس بأن له شيئ ما يقلقه ويعكر صفوه ويجعله دائما عبوسا في وجه الأخرين .. الكل كما عرفت لاحقا كان لديهم نفس الأحساس نحوه .. كان برنامج السرية يختلف تماما عن برنامج مجموعة الخدمات ففي السرية تقوم بتدريبات عسكرية متواصلة وكذلك التمويه والأختفاء وتيكتيكات المراقبة من البعد ومن القرب وكيف تطلب المساعدة عند الحوجة وكيف توقف الغرباء وتتأكد من هوياتهم دون ان يروك أو تعرض نفسك لأي خطورة... والكثير والكثير من التيكتيكات العسكرية ..وعبدو كان جيدا في هذا الجانب فقط كان صارما أكثر مما ينبغي  وكان صداميا.. كان المدفعجي في فصيلتنا اسمه عثمان وكلنا كان يناديه بأبو عفان كان طويل القامة ممتلئ البنية يحب البرين ويفتخر به ويدندن كثيرا بالتقرايت لا تمل من الجلوس معه وخصوصا وهو يترنم ويغني .. مساعده كان اسمه عبي .. شاب صغير العمر قصير القامة فاتح اللون عكس عثمان ذو البشرة السمراء لكنهم مكملين لبعضهم ... كان دور عبي تعبأة الذخيرة وتنظيف البرين وتغطيته عند الضرورة اما عثمان فهوالذي يحمله والمسؤل الأول عنه .. كنت قريبا منهم أكثر من أي مجموعة أخري حيث في الظهيرة وعندما لا أكون في وردية الحراسة أكون معهم نتشاطر المرح والقراءة .... عبدو صارت حدته تزداد سوءا وانطوائيته في تزايد واشتداد كل يوم فلا يروح عن نفسه بالمزاح والضحك مع الاخريين بل صارت تضايقه كلما وجد الأخرين يمزحون ويضحكون يغضب ويقول بان المناضل عليه ان يكون صارما وجادا .. اقول جادا نعم .. لكن لما ذا صارما ... لا يقبل أن يخالفه أحدا الراي او يفكر خلاف تفكيره .. كنا في حيرة من أمره وفي صبيحة أحد الأيام وأثناء وقوفنا في الطابور العسكري الصباحي أتي قائد السرية وأستدعي المناضل عبدو ونزلوا سويا الي المعسكر ثم عاد الينا لوحده ومر علينا مودعا .. تأسفت لحاله لكن ربما كان ذلك أفضل له وللجميع .. لقد علمت لاحقا بأنه نزل الي بركا ثم منها الي أجازة يقضيها مع أهله ثم يوجه بعدها الي موقع أخر .. عبدو كان مخلصا ومتفانيا لكنه كان يحتاج الي راحة وهذا ما أدركت وأحست به القيادة في المعسكر وكان ذلك خيرا له ...

ونواصل ........




Wednesday, February 11, 2015

في وداع رفاق الساحل



عند قدومنا من بركا كان معنا المناضلين الذين ألتقين بهم في الطريق وجمعتنا بهم الصدف وكثيرين منهم كانوا متجهين الي الساحل فقدموا معنا الي دبرسالا وبعد أن يستريحوا عدة أيام ثم يواصلوا في طريقهم الي وحداتهم ... وخلال الطريق حيث تقاسمنا كل شيئ وجمعنا الأحساس بوحدة المصير والهدف أشتدت العلاقات قوة ومتانة .. وصرنا كتلة واحدة يصعب فك أرتباطها وفي دبر سالا وبحكم كونه المعسكر الوحيد للجبهة وقتها كانت أغلب الكوادر تمر من هناك وهكذا طبيعيا أن يكون لك شبكة واسعة من العلاقات ... مجموعة الساحل والتي كان من ضمنها المناضل أبراهم محمد موسي سوف يغادروننا اليوم وكان الله في عونهم ورعايتهم مع وعورة الطريق وبعد المسافة والعدو الذي ينتشر أحيانا خارج المدن .... لقد قضينا مع المجموعة أياما لا تنسي وتقاسمنا ذكريات لا يمكن للتاريخ محوها وطمسها ...سوف أظل أذكر ذلك اليوم الجميل بنهاره الخاص حيث وصلنا الي وادي كبيربمنطقة أدريس دار ليس ببعيد من مدينة كيرو وكان وكأي مكان به ماء يعج بالحركة من الناس والدواب بكل أنواعها .. والجميل في ذلك الوادي الأحجار الملساء من كل لون وشكل وكان بذلك المكان متجرا لاحد المواطنين جعل المكان أكثر خصوصية ... لقد وصلنا ذلك المكان ووجدنا فيه مجموعة أخري من المناضلين سبقونا به وعلي ما أذكر كان من ضمنهم المناضل أدم حبيب وصلنا ذلك المكان ومعنا وفد من جبهة تحرير تقراي كان قد التقي بقيادة الجبهة وعلي رأسهم أدريس محمد أدم الذي كان قد وصل لتوه الي الميدان من الخارج .... ذلك الوفد أتي به الينا الشهيد أدريس عمر بعد أن كان قد ذهب لحضور الاجتماعات التي عقدت حينها مع القيادة وكذلك لحضور خلط الوحدات الذي تم في نفس الموقع ... وأذكر جيدا عندما رجع الينا من تلك الأجتماعات أبلغني بأسفه الشديد علي عدم مرافقتي له حتي أري الاعداد الغزيرة من الجيوش التي كانت هناك للخلط لكن وكما أسلفت عاد الينا بالوفد من التقراي ومهمة الوفد كانت للألتقاء بقيادة الجبهة وكذلك لطلب المساعدات من سلاح وتدريب .... قضينا ذلك النهار في الوادي الذي تظلله اشجار السدرالكثيفة من الناحيتين معطية المكان جمالا اخاذا وطبيعة ساحرة تأخذ الالباب... جلسنا نغتسل ونغسل ملابسنا وبعضنا يحيك فيما تقطع من الملابس والبعض الأخر يحلق والكل مشغول بأمره ... خصوصية ذلك النهار كانت تكمن في أشياء عدة منها تبرع المواطنين ببعض الاغنام وأصرارهم علي عدم أخذ أي مقابل علي الأغنام التي أعطونا اياها وكنا أصلا بصدد شراء بعضا منها لكن كرمهم الزائد مكننا وبعد فترة ليست بالقصيرة من تزوق طعم اللحوم .. لقد  كان نهارا جميلا لكن في خباياه كان يخفي شيئا ما ... المواطنين في تلك المنطقة يتحدثون التقرايت والحدارب وكان أحدهم يتكرر علي الشهيد أدريس عمر وكلما يأتي يأخذه بعيدا عنا ويتحدثون طويلا .. تكررهذا المشهد عدة مرات .. أحسست بأن هناك شيئا ما في طور الأعداد ثم أختفي ليأتي قبل غروب الشمس وعندها ذكر لنا الشهيد أدريس بأننا سوف ندخل مدينة كيرو التي كان بها معسكر للجيش الاثيوبي وكانت بها مدرسة أبتدائية ... كان هناك أحد القادة من مجموعة الساحل أسمه داوود تحدث الينا عن كيفية الانتشار وعن المسافة التي يلزم أن تكون بين كل فرد وأخر وعن أشياء كثيرة أخري .... انطلقنا ومعنا المواطن الذي هو دليلنا وكذلك معنا وفد جبهة تحرير تقراي .. أسئلة زاحمت مخيلتي لكن الان ليس وقت السؤال ... الان وقت السماع والتنفيذ ... كنت أتساءل كيف يكون معنا وفد التقراي ونحن ذاهبون لاقتحام المدينة ... والجاهزية كانت عالية حيث كل فرد علي زناده والمسافات متباعدة والظلام حالك والحركة في خفة شديدة فلا يصدر منا أي صوت ونسير بثبات حتي صرنا علي حافة التل الذي هو معسكر الجيش الاثيوبي وعلي طرفه وادي صغير أنتشرنا به ونحن في أشد حالات الأستعداد لكل طارئ ... رأيت المواطن يغادرنا في أتجاه المنازل في المدينة في تخفي كي لا يلحظه أحد من أفراد الجيش الاثيوبي ..وكان ملما بالطرق والمداخل لكنها أيضا الجرأة ونكران الذات التي تجعل الفرد يغامر بحياته ولا يبالي بالصعاب وكان ذلك يشكل جزء من ملاحم شعبنا الكثيرة التي تتجلي وتظهر ماثلة في كل المواقف والاماكن التي يتطلب فيها ذلك  .. أختفي لفترة غير قليلة ثم هاهو قد عاد المواطن وعلي ما اذكر كان اسمه محمد عثمان عاد وخلفه شخص اخر متخفيان ولا يصدر منهم أي صوت لكن رغم ذلك تم ايقافهم بهدوء حتي قال كلمة السر ومروا من خلف دفاعي اي المكان الذي كنت مرابطا فيه حتي وصلوا الي المكان الذي كان فيه وفد التقراي ... تركوا محمد عثمان هناك وابتعدوا عنا كثيرا حتي صرت لا اراهم جلسو حيثما جلسو لمدة طويلة جدا ونحن  في كل ذلك الوقت كنا في اقصي حالات الاستعداد لانه وفي اي لحظة من الممكن ان تندلع معركة مع قوات العدو الذي كان في التبة او التل الصغير علي فوقنا مباشرة ... كنت لا ادري تفاصيل العملية كما اسلفت ذكرا لكن علي ما يبدو انه اجتماع مطول بين احد قيادات التقراي مع شخص اخر لا ادري من هو..... عادا الاثنين من مخبأهم وتعانقا طويلا فبل أن يعود الذي اتي من وسط المدينة اليها مرة أخري مع محمد عثمان الموطن.. وكل هذا يتم في غاية من الهدوء وخفة الحركة ... تواري الاثنين عن انظارنا عائدين ادراجهم وعندها طلب منا بالانسحاب علي نفس الشاكلة والطريقة التي بها اتينا .. الاستعداد ثم الارتكاز ثم الانطلاق واحدا خلف الاخر بمسافات متباعدة وبهدوء تام حتي ابتعدنا كثيرا من مدينة كيرو التي وقتها كانت ذات تجمع سكاني كبير وما وجود المدرسة الا دليل علي ذلك .. عدنا ادرجنا الي نفس الوادي الذي انطلقنا منه ... كانت العملية بتنسيق تام بين الجبهة وقيادة التقراي وذلك حتي يتمكن قادة التقراي من الالتقاء والتشاور ... مخاطر ارادت قيادتنا اخذها في سبيل تمكين التقراي ... لقد علمت لاحقا من التحدث  مع الشهيد ادريس عمر بان الشخص الذي اتي من مدينة كيرو هو أحد موسسي جبهة تحرير التقراي وهو مدير مدرسة كيرو لذا كان علي الشخص الذي معنا ان يقابله ويرفع له التقرير عن لقائه بقيادة الجبهة ويضعوا سويا خطط عملهم المستقبلي قبل ان يعود هو كذلك الي موقع عمله ... كان هذا الشخص ذو ثقافة عالية واضطلاع مثير للاهتمام وكان هو والشهيد ادريس عمرلا يتفارقان خلال تواجده معنا ... كان الشهيد يحكي التقرنيا بطلاقة وكان يعجبني الاستماع اليهم وهم يتحدثون في مواضيع شتي تهم الشعبين والمنطقة بأسرها ... كان مستوي الحديث رفيع للغاية ينم عن القدرات القيادية الهائلة لدي الرجلين .. رافقنا الرجل لمشوار يومين مبتعدين كثيرا عن طريقنا الاصلي حتي نسلمه مجموعة اخري توصله مكانه الذي قدم منه ...ولقد تم لنا ذلك وعدنا الي طريقنا الأصلي المؤدي الي دبر سالا وجهتنا الأساسية من ألأول ...
وعودة لذي بدأ الي مجموعة الساحل التي كانت معنا في كل هذه المواقف وغيرها من التي لم ياتي ذكرها جعلت الروابط تذداد متانة والعلاقاة اكثر قوة وخصوصية لهذا لم يكن علينا سهلا ان يغادروننا لقد كان الجو ملبدا بالحزن لانك لا تدري ان كنت سوف تلتقي بهم مرة اخري فالاقدار في كل ركن ومكان ووقت وزمان ... سرنا معهم مشوارا من المسافة وهم يصرون علينا بأن نرجع ونحن نصر عليهم  بأن نذهب معهم لأطول مسافة... كان الشهيد ادريس في معظم ذلك الوقت برفقة ابراهيم محمد موسي الذي كان حينها المسؤل الصحي للساحل فهناك الكثير من الوصايا والنصائح التي تمر بين الرجلين .. ومن يرانا يدرك تماما باننا نسينا الغاية من السير معهم وأسترسلنا في المسير حتي افاقوا هم لذلك وأصروا علينا بان لا يتحركو حتي نعود دربنا... وبعد فترة عناق شديد انطلقوا ونحن نلوح علي ان تصحبهم السلامة ويكون الله في رعايتهم ...ثم طفقنا الي دربنا عائدين الي العيادة المركزية بدبر سالا.

ونواصل .......