Wednesday, May 6, 2015

وَدْ دَايِرْ الرفيق في الطريق


عادت الأمور الى نصابها والمياه الى مجاريها .. صار كل شيئٍ واضحا .. رغم أننا لم نلحق بالمجموعة الا اننا علمنا كل التفاصيل عنهم، عددهم ووجهتهم لذا صار هذا الموضوع لا يغُضُ من مضاجعنا ولا يعكر صفو الود بيننا وكل ما أحيط به من إختلاف في وجهات النظر صار من الماضي عادت للنفوس صفوتها وعدنا كما كنا نسير سَوِيًّا لا سابق ولا مسبوق ولا تارك ولا متروك نسير سوياً ونتجاذب أطراف الحديث تارةً في السياسة وتارةٍ أخري في أمور الحياة بشكلها الأوسع والأشمل هكذا من قرية لأخري نعبر تلالٍ وديانٍ وفيافي .. نعبر ونسير ولا ينتهي المسير .. نعبر ونسير ويطول خط المسير .. نعبر ونسير ومازال المتبقي كثير وكثير .. نطوي المسافات ونسير وكأننا قد بدأنا المسير .. وكل شيئ رتيب ومتكرر نستطيع معه توقع التالي من الأشياء كل شيئ كان كذلك الى أن تغير في ذلك الفجر ونحن مازلنا بعد في تلك القرية لم نغادرها ونسمع كبقية أهل القرية ما نسمع من نباح الكلاب وهي تنبه لقدوم شخصٍ ما .. أسرعنا لأخذ الحوطة وتمترسنا خلف شجيراتٍ حتي نعلم وندري عن القادمين .. أَهُمْ من المواطنين أم من الجبهة أم من جهةٍ أخري .. ازداد نباح الكلاب وصار أكثر حدةٍ ومن خلف الشجيرات التي اتخذناها كحواجز وسواتر يتضح لنا من البعد شخصان يبدوان بزي عسكري .. وكلما اقتربا إزداد نباح الكلاب حدةً ونري أحد المواطنين يخرج اليهم ويتحدث معهم ثم يشير بيده نحونا وعندها عرفنا بأنهم من الجبهة وخرجنا من خلف الشجيرات وهاهم قادمون نحونا وكلما اقتربوا بانت لي ملامح أحدهم وأسمع صباح الخير يقول "اهلين وسهلين ود داير.. ود داير مطى" ويقترب محمد عثمان داير وزميله الذى لا أذكر إسمه كانوا أيضاً ذاهبون الى كسلا وكانت وجهتنا واحدة وها هي المرة الأولي التي نتقابل فيها مع مناضلين من الجبهة منذ تركنا همبول حيث كان لقائي الأخير مع الشهيد إدريس عمر وكذلك الشهيد حليب ستي .. لقد فرحنا كثيراً بلقياهم وخصوصاً لأننا سوف نشترك في نفس الطريق فوجهتنا واحدة .. قالوا بأنهم منذ يومين وهم يتعقبون في خطانا ولقد صار لهم ما صار لنا مع مجموعة عبدالله إدريس ونحن نتعقب في خطاهم ولم نتمكن من لقياهم البتة لكن ها نحن وجدنا مجموعةٍ أخرى تشاطرنا هموم الطريق وتقلل من أتعابنا ومصاعبه علينا وخصوصاً ود داير المناضل القديم ذو التجارب والخبرات الميدانية العريقة الرجل المرح وخفيف الظل .. تقاسمنا مع ود داير لثلاثة أيامٍ تاليات الماء والكلأ وكذلك أحياناً "الجبنة" .. قاسمنا كثيراً من تجاربه وخبراته وحكاياته الجميلة اذكر منها عندما قال كنت في سفرية للخرطوم وكنت مقيماً بأمدزمان مع ود خالد وهو الخال إدريس وفي صبيحة احدي الأيام ودون مقدمات ونحن مازلنا على الأسِرَة نائمين وإذا بالذخيرة تمطر ناراً والأسلحة من كل الأحجام تملأ الفضاء والعويل والصراخ والهرج والمرج من كل إتجاه .. صباحا وليس كمثل أي صباح قال كان مرعبا وتحس بأن الذخيرة تتساقط بالقرب منك والأدهى والأمر لا تري شيئا من داخل البيوت وتسمع العويل والصراخ في الخارج ومن شدة الحدة والتداخل لا تعرف مصدره قال ونحن الذين تعودنا علي السلاح وصوت الذخيرة الأ انه كان من نوع أخر داخل البيوت ساعات رعبٍ لا تري فيها شيئ قال تمنيتُ الاستشهاد في الميدان ولا الموت في أحياء أمدرمان .. وأنا القادم لتوي من الميدان فمِنْ نارٍ الى نار ومن حرب الى أخري في وسط الأحياء ووسط البيوت .. قال لقد أخِذْنا في حين غرة والناس نيام والكل يصحى على صوت وصدي البارود وتخيل في وسط البيوت مع النساء والأطفال ولا تدرى المصدر ولا الاتجاه ولا الأطراف المتحاربة فقط ذخيرة صوتها يجلجل المكان ويسلب الألباب ولقد بلغت القلوب الحناجر ... قال طلبت من الجميع عدم الحراك والانبساط على الأرض حتى لا يكونوا عرضةً للطائش من الذخائر وحتى تخف حدة الأسلحة ويتضح الأمر .. قال تواصل الحال كذلك لحوالي الساعتين وبعدها صار متقطعاً وبكثافة أقل وكذلك تدريجياً حتى توقف لكن الأصوات في الشوارع والطرقات صارت في ازدياد وحركة الناس التي تود أن تعرف ما جرى وما يجري .. قال مثل بقية الناس خرجنا نستطلع وأول سؤال يُطرح اليك " يا ناس إنتو بخير" قال الكل يسأل الكل نفس السؤال والناس تطمئن على بعضها البعض وهكذا عادة الناس الطيبين ويبدو ان الجيران بخير وليس بينهم إصابات لكن كثير من أثار  الشظايا في الجدران .. لقد كانت معركة الأنصار مع جيوش النميري في حي ودنوباوي بأمدرمان وذلك فيما يعرف بأحداث الجزيرة أبا وودنوباوي .. قال أطال الله في العمر ولم يُصب احد من حوله بأذي ما عدا الترويع والخوف .. قصص ود داير أعطت لما تبقى من مسيرتنا طعماً ومذاقاً خاصاً لقد كان مكتبة من المعلومات يحبب اليك السرد بصوته الخافت واسلوبه الجميل .. كان محمد عثمان داير في طريقه الى كسلا وكذلك كنا نحن ومنذ أن التقينا به نزل عن كاهلنا هَمْ الطريق فقد كان يدري كل التفاصيل والمنعرجات ولم نضطر على سؤال المواطنين وأكثر من ذلك كان يذكر أسماء القرى التي سوف نمر بها في طريقنا .. كان مرحًا يمازح كداني من حينٍ لأخر مكنياً له بأبو حجاب ولم يكن كداني يرفضها أو يغتاظ منها بل العكس تماماً حيث كانت تضحكه وأحيانا يقول "إزي بروخ سبأي، أي ذلك الرجل المبارك يعني المواطن الذي صنع له الحجاب "التعويذة" .. وعندما إقتربنا من الحدود قال ود داير علينا بدفن الأسلحة .. لم يكن معنا كثير من السلاح فنحن كان بحوزتنا قنبلتان ومسدس مع ود داير وقنبلة أخرى مع زميله .. قال نحتاج  الى مشمعات وهي التي كنا نستخدمها لنفترشها على الأرض لنرقد عليها ..قال سوف لن نحتاجها لاحقاً نستخدمها لحفظ الأسلحة قبل دفنها وتكون هي كذلك محفوظة للاستخدام في المرة القادمة .. لقد إبتعد الثلاثة ود داير وزميله وكذلك صباح الخير كلٍ في إتجاه وكلٍ يبحث عن علامة تميز الموقع وقاموا بدفن الأسلحة جيداً وهكذا صرنا كلنا "كولي" يعني مجردين من الأسلحة .. كانت تتم هذه العملية دائما عند الذهاب الي كسلا وعند العودة يتم العكس تماماً .. كنا محظوظين بأن صادفنا في الطريق ود داير حيث كثير من التفاصيل خصوصاً عند الحدود كانت سوف تتعبنا لكن وجوده بيننا بدد عنا تلك العقبات لقد قادنا الى طريق السيارات العام والذي تسلكه السيارات الذاهبة والقادمة من كسلا .. وهناك جلسنا ننتظر لوقتٍ طويل حتى لاح غبار في الأفق عرفنا انه ما كنا نبغي وننتظر "لوري" شاحنة تئن مما عليها من حملٍ توقف لنا السائق وعرف من مظهرنا عن هويتنا وطلب من مساعده أن يعطينا ماءاً وبلح .. لقد أكرمنا بما عنده ونحن ممنونين لذلك بل ذاد على ذلك رفضه أخذ الأجرة قائلاً "انتم على عيني وراسي" ثم انطلق بنا ويا للمفارقة بين البحث عن جملٍ والبحث عن سيارة هواجس وأحاسيس انتابتني وأنا في الشاحنة ..ومن على البعد هاهي جبال التاكا ومكرام وقد بدت وكأنّها كتلةٍ صخرية وكلما اقتربنا بدأت التفاصيل تتضح اكثر فأكثر وصارت تقاطيع توتيل بارزة للعيان .. وها قد وصلنا لرحلة جديدة للحياة.


 


ونواصل في الحلقة القادمة والأخيرة من دبرسالا .......