Tuesday, August 29, 2017

الدلاليك والحولية وعبي عبدالله


الناس في مدن المنخفضات كانت تجيد المدأئح بل تبدع فيها وكان لكل مدينة مبدعيها في المديح فالشيخ طاهر كان علي رأس مبدعي المديح في كرن كما كانت هناك قممٌ أخري أمثال الخليفة الفكي أحمد عبد الله أطال الله في عمره وهو والد الأخ العزيز عبد الفتاح فكي أحمد وأخيه المرحوم عباس الفكي أحمد صديق الصبي منذ أيام خلوة الشيخ محمد عمر حيث كنا أنا وهو والاخ زين العابدين محمد علي عمر شيخ أقران نجلس سويًا عندما يُمْلِي علينا الشيخ محمد عمر في الصباح وكنا في سور متقاربة وكنا نلعب أوراق "البُمْبَا أميريكان" وتتلخص في جمع أكبر كمية من الأوراق التي تلف عليها العلكات (اللبان الامريكي) وكانت ذات قيمة تعليمية كبيرة حيث كل ورقة كانت تحمل معلومات متكاملة عن بلد معين مثل علم البلاد, العملة المستخدمة, اللغة, عدد السكان, العاصمة ومساحة البلاد مع خريطة توضح موقع البلاد .. كنا نتنافس بعدد البلدان التي بحوزة كل منا وبمعرفة تلك البلدان عن ظهر قلب .. كان تنافسا جميلاً علمنا الكثير ونحن صغاراً علمنا عواصم العالم وعدد سكان البلدان عرفنا جغرافية العالم قبل أن نتوزع في العالم ونسكن قاراته المختلفة يا لها من لعبة تستحق الأشادة ورحم الله عباس الذي وافته المنية في السويد وبارك الله في أعمار من تبقي منا وفي زرياتنا .. كان معنا في ذلك الوقت مجموعة كبيرة من الأخوة والأخوات أذكر منهم الاخ إدريس محمد علي عمرشيخ اللذي كان يوفق بين المدرسة والخلوة, يونس إبراهيم, عافة محمود, محمد محمود إدريساي, وكثيرين من أبناء حينا والأحياء المجاورة .. وكان للمديح أيامه وأوقاته بالاضافة الي أيام الحوليات .. كانت ايام المولد النبوي الشريف والليالي التي تسبق المولد تقام فيها المدائح وكذلك في ألأعراس .. كانت الناس تحب المدائح وكانت أكثر شيئ تتناغمه الأفواه وخصوصاً عند الرجال .. الطرب المدائحي الذي يغور بالنفس ويسموا بها الي علياء الأندماج الروحي والجسدي علياءٌ تدركها في الشيخ طاهر نحيف الجسد قوي الحنجرة وهو يتمايل كأنه النسيم يلامس الأغصان وهو يؤدي بحر الصفي .. صوتٌ قوي لا تتخيله يخرج من ذلك البدن النحيف لكنه يخرج مجلجلاً هادرا كأنه شلال ٌ ليطغي علي بقية الأصوات .. صوتٌ تدركه كرن جيدا وخصوصاً من عاصر زمانه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي .. كذلك الخليفة أحمد الذي كان يقود كل المناسبات الدينية وخصوصاً تلك التي تقام في دار أل بكري "عد سيدي بكري" وذلك الحوش الكبير الذي يكون في المناسبات الدينية مستقطب الكرنيين من كل الأعراق والأجناس وحلقات المدائح كانت تقام عادةً في الفسحة أمام الضريح وتقرع الطبول "الجباجيب" والطبول لم تكن للجباجيب وحده بل وكانت تقام الليالي الساهرات من كل أنواع الطرب من السعسعيتْ والدلوكة والمرقدي وكذلك السُومِيَتْ .. خلال ايام الحوليات كانت الناس تتقاطر افرادٍ وجماعات كلٍ له مقصده .. هناك من يأتي للطرب والترويح خصوصا الشباب وهناك من يأتي لشراء الحلويات من حلاوة سلة وسمسمية وغيرها مما تجود به أيدي المصوعيين القادمين خصيصا لبيع الحلويات بالاضافة الي المهام الأجتماعية الاخري فالروابط الاجتماعية بين المدينتين كانت أكثر من عامرة  .. وهناك من يأتي من بعيد خصوصا أهل بركة حاملين الهدايا وتري جمالهم بَارِكَاتْ في الدار الواسعة... لقد كان موسم الحولية موسم ينتظره الجميع وتدور حوله الكثير من القصص وتتناقل الألسن فيه الكثير من النكات إما من الكرنيين علي المصوعيين أو العكس .. قيل أن واحدا من ألكرنيين تخاصم مع أحد المصوعيين وبعد صدام وعراك فصل بينهم أهل الخير وراح كلٍ في طريقه وبعد مرور وقت علي الخصام التقيا مجددا في إحدي الطرقات فلما تعرف الكرني علي المصوعي قفز ليتشاجر معه مجددا فقال المصوعي مخاطبا الكرني "ياهو ميتو كنترات مسليك" أي إن خصامنا كان لمرة واحدة وليس كنترات من الخصام .. أهل مصوع أهل سلم وسلام وأهل  ثقافة ووئام  وأهل مرح وفكاهة لا تخلوا حياتهم العادية من الطرفة البريئة كذلك أهل كرن لكن من طراز أخر فلكلٍ خصاله .. ألمصوعيين لا يحبون الخصام والعراك الا ما كان منها لزاما وإضطرارا وهذا كان مبعث تنكيت الكرنيين بهم أما المصوعيين فكانت نكاتهم علي الكرنيين كثيرة .. قيل أن مجموعة من الشباب الكرني كانوا في مصوع لحولية سيدي هاشم وكان الجو ساخنا لدرجة لا تطاق فإشتري هؤلاء الشباب بطيخة وجلسوا يأكلونها والغَرَقْ يتصبب من جبينهم من شدة السخانة فمربهم مصوعي ورءاهم والعرق يتصبب ولحظتها قابل مصوعي أخر كان يمر كذلك فقال له "حميد مِهل أخبار" أي ما هي الأخبار يا حميد .. فرد عليه قائلا "غربية زَلِمْ هَليتْ" أي ان أمطاراً تهطل بالمنطقة الغربية ويعني بذلك ان الكرنيين يتصَبَبُون عرقاً ويضحك علي وضعهم هكذا كان المرح والفرح دواليك بين كرن ومصوع والحوليات كانت وعاءاً يحتضن الكم الثقافي الهائل بين المدينتين مع ما يتداخله من روابط ووشائج أسرية .. أيام الحولية تري فيها العجائب العجاب .. منها الضرب بالخراميج (الصياط) في الدلوكة ومن الذين يشهد لهم في ذلك المرحوم فرج طَلِيمْ أبو المرحوم إدريس فرج لاعب فريق عنسبا وكذلك المرحوم محمد علي ملي صديق الوالد والذي عمل لفترة بشركة أنكودة للحوم بشمال كرن قبل أن يتركها مريضا وطريح الفراش لمدة طويلة كذلك عثمان حيلا الذي كان كثيرا ما يتورط في الدخول في الحلبة ثم يصعب عليه الخروج منها بعد أن تشتد عليه الصياط وتقل منه درجة التحمل وتتدخل النفوس الطيبة لإنقاذ الموقف ويا ليته إنتهي عند ذلك بل يتكرر المشهد في اليوم التالي عندما يكون الإنفعال سيد الموقف مجددا وعندما تتعالي زغاريد النساء مع كل ضربة خرماج وصمود الاخرين أمامها .. كذلك كان هناك خميس من سودان طَبَابْ ذو القامة الفارعة والبنية العريضة وكان شِريباً عربيداً يحب المزاح وكان يسوق عربة الحجارة التي كانت تأتي بالحجارة من أطراف المدينة لتستخدم في البناء فالمدينة لم تكن بعد تستخدم الخرصانة مع الحديد في البناء بل كانت تستخدم المواد المحلية من طوب وأحجار مكسرة من الجبال حول المدينة ومادة الجير للربط مثله مثل الأسمنت .. كان خميس عملاقا يخيف من يبارزه في حلبة الخرماج وقليلون من ينازلون خميس .. الدلاليك والجباجيب والمدائح والسلة وطمبارة سودان طباب وعَبِي عبدالله "حُوِي بَارِهْ بِلَايُو" .. أذكر كيف كانت البنات يستدرجن الفنان عبي عبد الله علي الغناء بتكرار عبارة "حُوي بارِهْ بِلايُو .. حوي باره بلايو" مع إيقاع خفيف من الكبَرُو والعبارة يتغنين بها البنات قائلات يا أخي يا صاحب الثوب الناصع وهي للاستدراج  ثم يدخل عبي عبدالله الحلقة متوسطاً إياها متكئاً علي عصاه صادحاً دون تكلف بأغانيه التي كاننت دائما جزءاً من الواقع وتحمل أسماءاً حقيقية لاناس حقيقين وأماكن في المدينة كان عندما يصدح بأغنانيه  الشهيرة يرتقي مستوي الطرب وتعانق النفوس الثريا مؤججاً الحماس ورافعاً الحس الوطني .. عبي كان يعرف كيف يخلط بين كل أنواع الأغاني كان يدرك متي يغني لمعشوقته حيث كان يبدأ بالغزل  وأغاني وَدْ أمِيرْ وكَماجَنة ثم عندما يتأخر الليل ويخلو المكان من أعين الحكومة والجواسيس عندها يبدأ غناؤه الثوري وأشعاره المُلهبة للحماس والداعية للألتحاق بالجبهة والجبهة وحدها هي الثورة الإرترية حينها .. عَبِي رفع من سقف ومستوي الأغنية في النصف الثاني من الستينيات والسبعينيات .. أغاني عبي مفتوحة الجانبين يبدأ الأغنية حيث ما أراد ويختمها حيث ما أراد ويضيف مقاطع جديدة كلما أراد ومثال لذلك أغنيته المشهورة "قِلْ تِتْهَديتُو إتْ معشورا وهِتا سامْعَتْ يَهَليتْ أَسُؤُلا" أي سوف تتزوج في عاشوراء وهي لم تسمع بعد فأخبروها .. وفيها يقول "إنَاسْ تَبْعَتْ دُولْ وَلَتْ أنْسَيتْ فَتِي .. دَبِرْ يِلَعَرِقْ ومَحَازْ يِلِتْعَدي .. لؤُوكْ أَنِسْ قَبِي زُونْ زُونْ وَدي" أي عندما يحب شاباً فتاةٍ لا يستطيع صعود جبلٍ  ولا عبور نهرٍ يكون هائما كمرسال النساء .. كل مرة أستمع فيها لعبي يغني تلك الأغنية إلا وأضاف عليها مقاطعْ جديدة وهكذا لا تمل في سماع عبي مُجَدِداً لقديمه شادياً بحديثه غير مثقلٍ ولا مملٍ في غنائه.. عبي كان ذلك السحر الذي يضاف علي الحولية ليجعل من لياليها وأماسيها شلالاتٍ من الطرب والأبداع قد حباه الله بملكة التأليف والأداء والإرتجال كل ذلك في آنٍ واحد .. تتساقط الكلمات متناسقة متناقمة دررٍ فوق بعضها البعض من المعاني والزوق الرفيع .. إنسيابٌ طبيعي متواصل غير منقطع لا في المعني ولا في النغمة يتدفق منه عذباً سلساً   .. عبي عبدالله كان أيقونة الحولية وكان محبوب الجماهير الكرنية .. كُلُ هذه الأنشطة مَنْ مِنا يتوقع أن تكون جزءاً من مناسبة دينية .. الحولية كانت سبباً لتُقِيمَ كرن مهرجانها الثقافي السنوي الذي يحضره المسيحي والمسلم كما كانت ماريام دعاريت سببا للمهرجان السنوي الثاني للمدينة وبحجة وسبب أخر تتخذه المدينة لتقيم مهرجاناتها .. أهل كرن وبطبعهم المائل للمرح واللعب لا تنقصهم الأسباب والزرائع لاقامة مهرجاناتهم من حولية وماريام دعاريت .. تتعدد الأسباب والهدف واحد .. مهرجانات تعطي المدينة خصوصيتها وتفردها من المدن الأخري.