Saturday, April 18, 2015

همبول واللقاء الأخير


 



أعد الرفاق من حراس المجلس وجبة الغداء وخرج الينا القائد حليب ستي ولم تكن الوجبة بأحسن مما كنا نأكل في العيادة المركزية بالجبل هي نفسها وجبة القراصة مرشوشة  بالعدس والكل حول المائدة نأكل ونمرح ونضحك لا رئيس ولا مرؤوس لا جندي ولا مسؤول كلنا حول مائدة واحدة سواسية تأخذ حجم يدك ولا حجم موقعك نعلق علي بعضينا ونضحك وهاهي البساطة وهاهو التواضع ونكران الذات في أسمي وأجل معانيه تغرس كالبذور في نفوس كل المناضلين لتؤٌتي أكلها في التواضع والتكافل وحب الآخر نموذج تمنيت لو استمر في كل جوانب الحياة لاحقا ... حليب ستي عضو المجلس الثوري يمزح ويمرح مع كداني ويداعبه قائلاً أأكل جيدا لتعوض الدم الذي فقدته من خلال الرعاف المزمن وكداني يرد المداعبة بمثلها قائلا كنت أتوقع أن أجد لحما طريا وفاكهة متنوعة في مائدة المجلس الثوري لأعوض ما فقدت من دم والكل يضحك وحليب ستي يرد عليه قائلا كلها أيام قلائل وسوف تأكل القريت فروت وتشرب عصير المنقة الذي أخاف أن ينسيك الميدان ونضحك وهكذا قضينا وقت في قمة الروعة وقتٌ نوعي لا تجد له مثيلا ولا يتكرر كثيراً .. وقت نوعي بنوعية الحضور من الناس مستوي رفيع من الحوار ومواضيع الحوار كل شيئ كان يلقي برونقه وعبقه في ظلال أجوائنا ... أستأذن حليب ستي ودخل الكوخ الذي هو بمثابة مكتبه وعندها يستأذن الشهيد أدريس من بقية الرفاق ويستدعيني بعيدا حيث جلسنا في الوادي تحت شجرة السدر الظليلة بدأ يتحدث وهو يؤشر في الأرض بحجر صغير في يده ذاكرا كيف أن الأيام تمر بسرعة وكيف انقضت شهور أربعة منذ صعودنا سويا الي الجبل وكيف أنه كان دائما ينظر الي كأخ أصغر وكنت أحس ذلك في كل معاملاته وحديثه ونصائحه لي ولهذا كنت أجله وأقدره وأحترمه وكنت أعود اليه في كل مسألة وموضوع مستعصي .. ذكر لي بانه وحرسيه سوف لن يكونا في الجبل لفترة من الوقت حيث أعطيت له مهام تحضيرية تتعلق بالمؤتمر الوطني الثاني المقبل والذي كما قال تًبذل قصاري الجهود من أجل انجاحه ومهمته كما ذكر كانت تتعلق باقامة ندوات وأجتماعات تنويرية وتثقيفية عن المؤتمر وعن الدور المرجو من المناديب لعبه في المؤتمر ثم يتبع ذلك باقامة الترشيحات لأختيار المندوبين للمؤتمر من الجيش والشعب عن المنطقة التي كما قال تقع حوالي الجبل قال سوف نقوم بكثير من السفر والتنقل لعقد هذه الأجتماعات وصار يحدثني بأنه كيف كان مغرما بالعمل وسط الجماهير وهاهي فرصةٌ تتاح له للعب الدور الذي طالما أحب أن يلعب... طالت جلستنا في الوادي والشهيد لا يود ان ينسى اي نصيحة دون ان يسديها إلي وإني لا اود أن أغادر دُون ان يعلم مدي إمتناني واحترامي وتقديري له كل منا له رسالة يود إيصالها للأخر والحال كذلك حتى سمعنا صوت صباح الخير من وراء اشجار السدر يقول صائحا "يهو قدم وَقتْ ورَبْ تُو" اي حان وقت الرحيل .. وعندها تحركنا الثلاثة الي اتجاه الكوخ والراكوبة مقر عضو المجلس الثوري حليب ستي وهناك أخذنا أمتعتنا وعانقنا المجموعة مودعين وأصر الشهيد إدريس في مرافقتنا لمسافة ثم وبعد إصرار وإلحاح صباح الخير عاد الشهيد وواصلنا نزولاّ الى بركا وهنا كنا فقط ثلاثة  افراد صباح الخير وكداني وشخصي وعلينا بالأهتمام بكداني كي لا يشتد عليه النزيف الأنفي حيث الفكرة تكمن في أن لا نسير وقت إشتداد الشمس وبأن نكتفي بالمشي في أوقات الصباح الباكر والمساء كذلك في أن نبحث له عن جمل يستقله ويكفيه عناء المشى على أقدامه كل هذا المشوار .. انه اليوم الأول في مشوارٍ ربما يستغرق أيام وليال ووجهتنا الأولي سوف تكون أقرب قرية في طريقنا نجد فيها جملا لكداني .. الوحيد الذي يمكن ان يدري الطريق هو صباح الخير وحتى هو غير متأكد بالوجهة واتفقنا أن نتبع خط غروب الشمس مع ميلانٍ الى الجنوب قليلاّ علي الأقل نحن الثلاثة متفقين في ذلك وبالنسبة لكداني فهي المرة الأُولي التي ينزل فيها الى بركا وعليه فالمشي بالليل يكون أنسب شيئ مع حالته الصحية ... نسير ونسير بلا عناءٍ أو كلل تلالٍ وتلال نتخطاها وديانٍ ووديان نعبرها ومازلنا نبحث عن أقرب قرية في طريقنا الي أن سمعنا نباح كلب لا يبدو بعيدا انشرحت صدورنا وعمتنا الغبطة وأدركنا بأننا على مقربةٍ قرية لا ندري حجمها ... توقفنا حتى نسمع الإتجاه الذي منه اتى النباح وهاهو يتكرر أكثر علواً ووضوحا ولم يكن لنا أدنى شك من وجهته ولا من الأتجاه الصادر عنه ... يممنا شطر ذلك الإتجاه وصرنا نسير ونسير ولا أثر لأي قرية والظلام صار دامساً حالكاً وكداني يصارع مع رعافه الذي بدأ ولم يطلب التوقف ظناً من إننا وصلنا الى القرية ولكن عندما ذهبنا طويلاً ولا أثر لأية قرية عندها طلب كداني بأن نتوقف ونستريح حتى يتوقف رعافه وكان ذلك سبباً كافياً للتوقف وما أن توقفنا وصار صباح الخير يصب في رأس  كداني قليل من الماء القليل الذي تبقى عندنا حتى وسمعنا النباح مجدداً لكن هذه المرة فالنباح من خلفنا ويبدو بعيدا هذه المرة وانتابنا خليط من الإحساس والشعور فمن جهة نحن فرحون لسماع النباح مجددا حتي نتأكد من وجهتنا وهوشيئ مطمئن ومن جهة أخري انتابنا الإحباط لتجاوزنا المكان وبعدنا عنه .. تشاورنا في ماذا يمكن فعله فلا نود أن نصل الى القرية في وقت متأخر من الليل وكذلك لا نود ان يكون ذلك على حساب كداني الذي حالته تتطلب الإستراحة على الأقل حتى يتوقف رعافه اتفقنا على أن أبقى مع كداني ويذهب صباح الخير ليستطلع أمر نباح الكلب ومدي قرب القرية وأن لا يبتعد كثيرا .. انطلق صباح الخير بعد ترك أمتعته معنا واختفي في جنح الظلام وحالة كداني بدأت في الأستقرار وقد توقف النزيف لكنه مازال ممسكاً بقطعة الشاش في انفه .. مر وقت ليس بالقصير وسمعنا النباح عاليا متكرراً  وكان حادا وشديدا وعندها قلنا ربما إقترب صباح الخير منه وربما لهذا السبب ينبح بحدة وشدة .. تأخر صباح الخير ولا ادري ما العمل فكل خيار أصعب من الأخر والجلوس دون فعل شيئ ايضا ليس بالخيار المناسب .. صرت اتحدث مع كداني في ما يجب عمله ونحن نتحدث في الموضوع واذا بصوت صباح الخير يسأل "يَهَوْ ابايا هَليكُم" أي أين أنتم رفعت صوتي قائلا "إبلا إبلا صباح الخير" اي من هنا من هنا يا صباح الخير ... لقد ضٓل طريقه الينا وهذا ما أخره وقال بأن المكان بعيد و يتطلب عودتنا الى الوراء ذهابا اليه ثم إنهم لا جمل لهم ولا ناقة وعلينا أن نواصل الى الأمام بدلا من الرجوع الي الوراء حيث أنهم قالوا بآن قرية أكبر توجد أمامنا في الطريق .. لقد أتى صباح الخير ومعه كل المعلوملت المطلوبة .. تركناه يستريح قليلاً وانطلقنا في الأتجاه الذي ذكره .. وكما قال كانت امامنا قرية تبدو للعيان من بعيد بنيرانها المتقدة وبكلابها النابحة ونحن نقترب من القرية  .. نزلنا بالقرب منها وذهب صباح الخير في طلب الكلأ وماء المشرب وإيادٌ من نارٍ ... كانت هي العادة المتبعة بأن تنزل بالقرب من القرية وليس بداخلها وذلك ردءاً للشبهات وبعدا من الاحتمالات وحفاظا على خصوصية حياة المواطن واحترام تقاليد المجتمع .. أتي المواطن بالعصيدة "أكلت" وبعد ان ضعها على الأرض اعتذر على عدم وجود اللبن وقال "طبحا من نوساتو" أي أن العصيدة ملاحها من ذاتها يعني منها وفييها .. شكرنا الرجل على كل حال وأنه لا حرج فيما لا يتوفر لديه ... ذهب الرجل وبدأنا نأكل وهنا وهنا جن جنون كداني قائلا كيف يعقل أن لا يكون لهم لبن لتمليح هذه العصيدة ورفض الأكل رغم محولاتنا الحسيسة لأقناعه .. طلبنا منه أن ينسى المذاق وان لا يركز فيه وأن يأكل فقط لكن هيهات لمن تنادي رفض البة وعوضا عن ذلك أكثر من شرب الشاي مع كثير من السكر .. لم ألمه فالمذاق كان صعبا لكن للضرورة احكام.

 

ونواصل ........

    

 

 

 

Sunday, April 12, 2015

مع حليب ستي في هنبول

 


بعد عودتنا من سبر ودبر معر كان التركيز منصبا علي التدريب والجاهزية القتالية وظهر تحسن كبير لأوضاعنا المعيشية وكذلك في العيادة المركزية وذلك بفضل الجهود الدؤوبة والحثيثة التي ما برح المسؤولون يبذلونها وعلى رأسهم الشهيد ادريس عمر وكذلك ود حاج علي مسؤول العيادة وآخرون خلفهم يعينونهم في تحقيق هذه النجاحات الملموسة .. لقد كان نادرا مانأكل العدس والأن ومنذ عودتنا صار وجبتنا الرئيسية مرتين في اليوم والسكر صار متوفرا بأستمرار دون معاناة وكذلك سمعت بأن العيادة استلمت مؤخرا دفعات من الأدوية وصاروا يفكرون بأقامة دورات للتمريض وتوزيع الممرضين في الوحدات العسكرية وكذلك توزيع أدوية الأسعافات الأولية بشكل روتيني .. هنالك برامج كثيرة في الأفق بدأت تلوح والضرورة صارت ملحة لها فالإرتفاع التدريجي لأعداد المقاتلين بات يعجل في أن تقام دورات طبية ثابتة  كذلك في الجانب العسكري صارت برامج كثيرة ملحة وضرورية وعلي حسب علمي فان هناك حراك شديد منذ  وصول القائد ادريس محمد ادم رئيس المجلس الثوري الي الميدان والأجتماعات المتتالية للمجلس وانبثاق اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الثاني .. حراك وديناميكية في الساحة تبشر بالأرتقاء بالعمل الثوري الى رحاب أوسع وآفاق أبعد .. أمور كثيرة في طريقها للتغير وهذا أبوعفان صاحبي المقرب يقول بأنه أخيرا حصل علي الموافقة بالذهاب لزيارة أهله وكذلك لموضوع أخر وهنا يفشي لنا أنا وعبي سرا ويطلب منا كتمانه بأنه سوف يتزوج من ابنت عمه التي انتظرته طويلا ورفضت الزواج من غيره رغم الضغوطات التي مورست عليها .. يقول بأن قائد السرية استدعاه بعد عودتتا من سبر وأخطره بالموافقة وبأن رسالته ومصروفه الذي يعطي عند المغادرة سوف يكونا جاهزين .. اما عبي فيمازح أبوعفان قائلا من يكون لك وزيرا وانت تتركنا وتذهب لتتزوج .. أبوعفان موجها حديثه لعبي أخفض صوتك فأني لا أود أن ينتشر الخبر.. وهكذا كانت الحياة تمضي بين أملٍ ورغبة وواقع وصعاب .. بين أحلامٍ وآمالٍ ومشاق .. بين طموحات نتمني تحقيقها وبين حاضر ومصاعب تحول دون ذلك .. هكذا كانت الأيام تمر وتمضي حتي ذلك المساء حيث كنت أجهز نفسي للخروج للحراسة الليلية لكن محمد عافة قائد الفصيلة يقول لا عليك الليلة وسوف يأتي صباح الخير للتحدث معك قلتُ انشاء الله خير قال خير لكن التفاصيل معه وصرت انتظر قدوم صباح الخير بفارق الصبر لأعرف مابالأمر .. أنتظرته حتي وصل من العيادة وأحذني بعيدا وقال أن لقائنا سوف يكون قصيرا فعليه العودة سريعا  لذا سوف لن يطول الحديث قلت وما الأمر بأختصار قال ان علي أن أجهز حالي فسوف ننطلق غدا مبكرين في أتجاه بركا هناك مريض وحالته طارئة وعلينا النزول به وسوف لن نكون لوحدنا بل سوف نكون مجموعة لابأس بها قال تصبح علي خير وغادرني نزولا الي مقر العيادة ومباشرة بدأت في تجهيز أغراضي وفي هذه الأثناء أتي المناضل محمد عافة وجلس يحدثني عن أمور كثيرة بعضها كان عاما عن أمور الثورة والنضال وبعضها كان خاصا به وكيف أنه كانت تحدوه رغبة جامحة في التعليم وكيف أنه لم تتح له الفرصة في ذلك وكيف أنه لابد لأبنائه وبقية الأطفال في ارتريا أن يحصلوا علي  نصيبهم من التعليم .. فتح قلبه وأخرج الكثير من المدفون لكنه لم يصل لدرجة الوُبوح بأميته في القراءة والكتابة ولم أدفعه الي ذلك الأتجاه فهو أعلي وأكبر من أن يدفع في ذلك الأتجاه .. في الختام قال يجب أن تودع رفاقك فربما لا يتثني لك لقائهم من بعد وكما قال مررت برفاقي مودعا فربما لا أراهم في الصباح حيث سوف نغادر مبكرين جدا علي حد قول صباح الخير .. وفي الصباح الباكر لم نشرب حتي الشاي انطلقنا وأنا مازلت نصف نائم أدعك وأفرك في عيوني  وأتعثر في الطريق ولحسن الحظ لم أكن في المؤخرة كما ان عددنا لم يكن بالكثير كما توقعت من حديث صباح الخير لقد كنا ستة أفراد الشهيد أدريس عمر وحرسيه ثم صباح الخير والمناضل كداني الذي به رعاف مزمن لم يتمكنوا من ايقافه في العيادة والخوف في أن لا يتفاقم الي خطورة تهدد حياته دفع ود حاج علي الي تحويله من العيادة المركزية.  تدريجيا ومع نسايم الصباح العليلة وأصوات الطيور المغردة لليوم الجديد بدأت عيوني تتفتح كتفتح الأفق البعيد ضياءا وانشراحا .. بدأت أصحي وأتصحصح وأكتسب طاقتي من هذا البهاء والجمال من حولي شفق بعيد وندا تلامسه يدايا فوق الحشائش وأشجار "التسس" والطيور والحبور والمرور في هذا الوسط .. عالم الصباح في الجبل انما هو عالم بذاته في وحدة متناقمة متناسقة ودومومة وصفاء عالم لا يعكر صفاءه شيئ فهو بعيد من أسباب العكر والتعكير لوحة يحفظها بارئها ويصونها خالقها ومدبر أمرها .. بدأ ظلام الليل في الأنقشاع رويدا رويدا وبدأت معالم المكان في الوضوح وهاهو حسن المناضل الشاب أحد أفراد حرس الشهيد ادريس يقود السير بخطاً ثابة وسريعة والمسافات بيننا ليست بالمتباعدة كما في العادة الكل يود أن نقطع مشورا كبيرا قبل أن تلسعنا الشمس بألسنتها خصوصا ومعنا كداني الذي تٌفاقم الشمس من حالته .. ظللنا نمشي بتسارع وصار واضحا من اننا في حالة نزول لقد بدأنا النزول من الجبل ومن الملاحظ الكمية الكبيرة لأغنام الماعز والتي تراها في كل أتجاه وهاهو أحد الرعاة يبدوا من البعد في الطريق وعندما وصلنا اليه بدأت عليه علامات السرور والغبطة بلقائنا وأصر علينا بالجلوس برحة من الوقت حتي يحلب لنا وتحت أصراره قبل الشهيد ادريس علي أن نجلس قليلا من الوقت تحت هذه الشجرة وذهب الراعي الشاب يحلب لنا اللبن وكانت فرصتي لأسأل الشهيد عن وجهتنا وعن المهمة التي أنا بصدضها قال والحديث لم يكن موجه لي فقط بأننا في طريقنا الي همبول ملوحا بيده الي تلك المجموعة من الجبال حيث سوف نلتقي بالمجلس الثوري وكان يعني بالعضو الممثل للمجلس الثوري قال حسن متسائلا أسوف نصعد الي الجبال يعني جبال همبول ورد الشهيد أدريس قائلا بأنه لا يتطلب منا الصعود الي الجبال حيث أنهم متواجدون في الوادي وبأنه يعلم المكان بالتحديد وهاهو الراعي الكريم يأتي باللبن الساخن في سعن صغير "هوت"  وبدأنا نشرب ونمرر في السعن الي بعضينا حتي شربناه كاملا وعندها قال الراعي دعوني أحلب لكم أكثر والجميع أبدينا رفضنا القاطع حيث كنا قد أمتلانا بحق وحقيقة ولقد عوضنا ذلك علي عدم شرب الشاي في الصباح قبل المغادرة .. شكر الشهيد الراعي علي كرمه وشهامته وتمني له الخير الوافر الكثير وواصلنا في النزول تلال وراء تلال تنزل واحدة لتبدأ في الأخري تناغم وتسلسل وبهاء الي أن وصلنا الي الوادي المغطي بأشجار السدر الظليلة والتي جلسنا عندها ليذهب الشهيد أدريس وبرفقتة حرسيه الي مكان تواجد المجلس الثوري .. أختفو لفترة ثم يعود حسن لوحده قائلا بأن المكان ليس ببعيد انه قريبٌ من هنا وتبعناه بين أشجار السدر الكثيفة ويلوح بيديه الي كوخ علي البعد قائلا هو ذاك مقر المجلس .. المكان لايصله الا عارف ومدرك حتي ولو كان بالمنطقة وقبل الولوج الي المكان أعترضنا أحد حراسه وبما أنهم كانوا يتوقعوننا مع حسن فالتحقق والتأكد من هوياتنا لم يطل أو يأخذ زمناً .. رافقنا الحرس الي المقر حتي وصلنا الي راكوبة أمام الكوخ كان يستظل ويجلس فيها بقية أفراد الحرس .. استقبلونا بحرارة ورحبوا بنا ترحيبا مابعده ترحيب لقد فرحوا فرحا شديدا تحسه متدفقا في محي وجوههم جلسنا معهم نحتسي الشاي وكان أثنائها الشهيد أدريس في داخل الكوخ مع المناضل حليب ستي عضو المجلس الثوري في اجتماع مطول .. أحد الشباب من حراس المجلس قال لي سوف أقدم لك هدية تذكرني بها دائما أينما كنت قلت بكل فخر واعتزاز .. أخرج طلقة من كفوفه ثم حرك رأس الطلقة بكل الأتجاهات حتي صارت أيلة للخروج ثم أخرج الرأس من الظرف وقام بتفريق البارود علي قطعة قماش ثم أخذ ايادا من النار وقربه من مؤخرة الظرف وعندها أحدث فرقعة خفيفة أدت الي ثقب الظرف من المؤخرة ثم أدخل خيطا من خلال الثقب وربط مؤخرة الخيط عدة مرات حتي صارت كالعقدة تمنع الخيط من الخروج ثم وضع الرأس مجددا في مكانه وأحكم الرأس في الظرف .. عملٌ جميل ورائع طلقة تتدلدل من العنق ولا تمثل أي خطورة .. قبلت الهدية وكلي أمتنان وتقدير علي منحي هذه الهدية القيمة والمعبرة وبينما نحن نتجاذب في أطراف الحديث مع الشباب من حراس المجلس خرج الينا الشهيد ادريس عمر وطلب مني بالدخول لمقابلة القائد حليب ستي وكنت بحق متشوق لتلك اللحظات التي أقابله فيها وطالما سمعت عنه وعن بطولاته التي كان الشباب يتغنون بها "حليب ستي سني فالو" .. كان الشهيد أدريس قد أعطاه نبذة عني فبمجرد أن دخلت قام من مجلسه وصافحني بحرارة وهو يناديني بأسمي وطلب مني الجلوس .. شخص تحس بأريحية في مجلسه وتحس بأنه لا حواجز ولا موانع للحديث اليه فهاهي المرة الأولي التي أقابله فيها وكأننا نعرف بعض منذ مدة وببساطة  كان  تواضعه يذيب كل الحواجز .. شخص كان بمستوي الشهرة التي حظي بها وأكثر .. ثمات قيادي من الطراز الأول هدوء وسكينة تبعث فيك الأطمئنان .. والأسترقاق في السمع بعطي أهمية لكل ماتقول دون مقاطعة ولا خروج ولا استرسال ثم حديث مهذب في المضمون .. طلب مني أن احكي له عن تجربتي خلال الأربعة أشهر التي قضيتها في دبر سالا وفعلتُ بأيجاز ثم صار يقدم لي النصائح ويعدد لي في أوجه النضال وبأن البندقية ليست الا واحدة من تلك الأوجه .. قال ان تحرير الأنسان من الجهل والمرض لا يتم بالبندقية وحدها رغم أن الكفاح المسلح يمثل أرقي وأعلي أوجه الفداء والتضحية .. كان حديثه مشبعاً بروح الحماس ودافعاً معنويا للتحصيل العلمي .. أول مقابلة لي مع عضو مجلس ثوري وفي خلاصتها ينصحني بأن أذهب وأُواصل تعليمي  حديث لم أتوقعه بالمرة لكنه كان ينم ويوحي عن بعد نظر وعن فهم بالمسؤلية .. حديث كان له ما بعده من تأثير في حياتي.

ونواصل ................



Thursday, April 9, 2015

وعودة الي الجبل


مرت كثير من المياه في المجاري ونحن في التنقل من قرية الي اخري ومن منطقة الي منطقة نتقابل فيها مع وحدات مختلفة من الجبهة متنقلة هي الأخري في نفس المنطقة وكذلك كنا في طواف وتنقل الي ان اتتنا رسالة من قائد السرية تطلب منا بالعودة الي الجبل وكانت هذه الرسالة ردا علي رسالة كان قد بعث بها محمد عافة قائد فصيلتنا حيث وبعد مدة من الطواف وبعد تدقيق وتفحص للمعلومات القادمة من مدينة كرن والتي لا توحي باي استعدادات للعدو للخروج من المدينة نحو دبر سالا حيث خٰمُدت جزوة تلك الاستعدادت السابقة كما ان تواجد وحدات الجبهة الدائم والمستمر في المناطق المحيطة بمدينة كرن فعل فعلته في تغيير مخططات العدو وأدي ذلك الى ارباك خططه  وهذا بالتحديد ما سعت اليه قياداتنا وكان ذلك ينم عن فهم وحسن تخطيط ... اجتمع بنا محمد عافة في ذلك الصباح الجميل ونحن جلوس نحتسي الشاهي الساخن  من اكوابنا ال "اذانيت" وأخرج الرسالة من جيب قميصه وفتحها وصار يتحدث ملوحا بالرسالة ذاكرا بان الأمور قد تحسنت في الجبل حيث تم تخزين الأمدادات الكافية والظروف الأمنية لا تستدعي في الطواف المستمر كما ان وجود الوحدات الأخري في محيط مدينة كرن لا يستدعى ولا يتطلب تواجدنا هنا وبما ان موسم الأمطار قد بدأ ومع ما يمثله من مصاعب يقتضي ويتطلب عودتنا الي الجبل كما انه تنتظرنا مهام اخري هناك من اصلاح البيوت وبناء وحدات اخري تستطيع الصمود امام أمطار الجبل والتي تكون أحيانا مصحوبة بالرياح القوية .. كما عدد ذاكرا الأيجابيات التي جنيناها من النزول من الجبل خلال هذه الفترة وكيف انها أعطت الجماهير روح الثقة والأطمئنان بتواجد كل هذه الوحدات في المنطقة مما عزز بأعداد الشباب الملتحقة بالميدان والروح المعنوية العالية .. سرد الكثير والكثير وكنت في دواخل نفسي اقول ان  يحرمك الله من ميزة واحدة فأنه يعطيك ميزات واشياء أخري كثيرة وهاهو المناضل والقائد محمد عافة يتحدث بسلاسة وبأريحية وتسلسل منطقي للأمور وبحضور ذهني أخاذ وكانه يحاضر امام تلاميذ له في الجامعة قلت سبحان الله .. بعد ان افاض في الحديث فتح المجال للأخرين يضيفون ويتساءلون كيفما يشاؤون  ثم في الختام ذكر بأنه امامنا مجالا واسعا للأستعداد والتحضير وتجهيز انفسنا لكي نغادر بعد الظهر .. وكما ذكر كان أمامنا متسعا من الوقت لكي نغسل ونغتسل وهكذا كان وملابسنا المسطوحة في الصخور الملساء خير شاهد علي ذلك .. وما ميز يومي من غير أمور الأستعداد هو حديثي الشيق والمطول مع المناضل من اسماط حيث ذكر لي كيف التحق بالثورة .. قال كنت ممتلئا شبابا وحيوية أردت ان أبني حياتي وليس أمامي ما أفعل في القرية غير الرعي والزراعة الموسمية .. قال نزلت كأقراني من الشباب نبحث عن العمل وحينها كانت طوكر بمشاريع القطن وما يصاحب ذلك من موسم اللقيط الجاذب الاكبر للباحثين عن العمل وهي كانت أقرب الينا من مدني ومشاريع القطن والمحالج التي كانت ايضا تستقطب كمية كبيرة من الشباب .. قال كان عملا موسميّا في مزارع القطن بدلتا طوكر تعود بعده معظم الشباب الي قراها متبضعةّ لأهلها بالملابس والحلي وكانت معظم الزيجات تقام بعد عودة الشباب لكني فضلت عدم العودة والمواصلة لبورسودان لعلي أجد عملا افضل .. قال عملت بالميناء مع عمال السقالات لسنين عدة ذقت خلالها ويلات العمل الشاق وقررت تركه والعودة الي اسماط وكلي حسرة علي السنين التي مضت من عمري دون تحقيق  حلم أو بناء حياة وفي تلك الأثناء تعرفت الي أحد الأصدقاء الذي اقنعني بالذهاب الي كسلا والعمل في البساتين هناك .. استقر بي المقام في كسلا وتنقلت بين عدة اعمال وخلال تلك الفترة كان الكفاح المسلح قد بدأ وكنت قد تأطرت ضمن الخلايا السرية وكنا نجمع في الاشتراكات والمساعدات ونرسلها الي الميدان .. قال مرت السنين وأشتد عود الثورة وقويت شوكتها وأزداد بطش العدو بالجماهير العزل وأجتماعتنا في كسلا صارت أكثر من ذي قبل وفي واحدة من تلك الأجتماعات كان الموقف مؤثرا جدا حيث السرد كان عن المجازر وحرق القري والابادات التي كان يرتكبها العدو في الريف وكثرة الأعداد اللاجئة الي السودان  وكان المتحدث يذكر بحرقة ان لم تحركنا كل هذه الأعمال ما الذي سوف يحركنا حتي نزود عن أهلنا وقرانا وكان لهذا الحديث ولما كنت أسمع من القادمين تأثير مباشر علي خصوصا ولقد عانيت وأدركت الحرمان وأدركت أهمية الوطن وقررت الالتحاق ولم اكن لوحدي بل كنا مجموعة ليست بالقليلة ... ظل صاحبي المناضل من اسماط يحكي لي وانا مشدودا الي حكاياته حتي حان وقت الرحيل وهاهو ذا ابو عفان يرفع في البرين ويطلب الأنتباه ثم الأستعداد من الجميع وكلنا لحظتها صفوف متراصة ثم نبدأُ في الانطلاق وأذكر جيدا عندها كنت التفت كل مرة لأنظر الى دبر معر خصوصا عندما بدأنا في الصعود .. دبر معر عملاق بحق وحقيقة ولا ادري ان كانت اطرافه الأخري مأهولة اما التي امامي فلا تبدوا .. ظللنا نواصل في المشي حتى اختفي دبر معر وصرت لا اراه تماما والعليل البارد القادم من القمة ذكرني بصعودي الأول للجبل من اتجاه بركا والليل قد حل لكن ضياء القمر الساطع أعاننا في مواصلة المسير والعليل يذداد برودة مما اكد لي قربنا من القمة ولقد صدق ظني عندما أُمرنا بالتوقف والاستراحة ثم واصلنا بعدها وعلي حد قول محمد عافة فانهم في الجبل يتوقعون وصولنا اليوم والفصيلة المتبقية للحراسة أُخطرت بوصولنا ولا نتوقع اي مفاجأٓت رغم ان كل شيئ جائز .. ظللنا نمشي والجو قد ازداد برودة والسكون شاملا ماعدا حركة ارجلنا وتلاطمها مع شجيرات التسس وصوت عال يأمرنا بالتوقف وكان ذلك متوقعا لقد وصلنا وياللفرق بين جو الجبل البارد وجو السهل "قلاقل" الدافئ.

ونواصل ......

Friday, April 3, 2015

كوكلاي وغيث من رورا ماريا

منذ نزولنا من الجبل والتنقل مستمر بين المواقع والقرى في منطقة ربما تكون بين الأجمل في البلاد .. منطقة تشابه كثيرا مناطق وقري عنسبا لعال حيث الجبال العالية والأودية الكثيرة المتناثرة هنا وهناك .. كلما تنقلنا في هذه المنطقة كلما زاد اعجابي بها وأكثر ما يميز هذه المنطقة كثرة الأودية وأغلبها يصب في خور سبر .. وكثرة الأودية تعني كثرة التلال والجبال  وهذا ما كان يشكل خط الدفاع الأول لدبر سالا فالموقع حصين طبيعيا ويتأكد لك ذلك عندما تتنقل في المناطق المحيطة به فهناك سلاسل من الجبال بكل الاتجاهات قبل ان تتمكن من الوصول الي دبر سالا وحتي اذا تمكنت من الوصول الى اطرافه فالصعوبة سوف تكون في الصعود وحتي اذا صعدت فالصعوبة سوف تكمن في ايجاد المكان فالجبل شاسع وفوقه تلال وجبال ولهذا استعصي الجبل وظل منيعا شامخا شموخ واستعصاء ابنائه .. وهنا كانت تكمن رمزية هذا الجبل في وجدان المقاتل الأرتري وقتها ... وفي تنقلنا الدائم بتلك النواحي وبينما كنا نهم لمغادرة احدي القرى أتى شيخ كبير ومعه ابنه وطلب التحدث مع المسؤول فينا وأعجبني هذا الأسلوب فالشيخ يود ان يكون حديثه مع المسؤول فقط كي يتأكد من وصول معلومالته .. ذهب اليه محمد عافة وابتعد به قليلا وبعد الحديث معهم عاد الينا قائلا بان الشيخ وابنه يقولون بأنهم شاهدوا من علي البعد جيشا متحركا ولم يتأكدوا عن طبيعة وتفاصيل  ذلك الجيش ولا يدرون ان كان للجبهة أم للعدو فقد كانوا بعيدين منهم .. والأتجاه الذي ذكروهوا هو نفس الأتجاه الذي نود الذهاب اليه .. هنا تعقدت الامور فلم يكن لنا علم او أي معلومات عن  تواجد وحدات بنفس المنطقة وعلينا فعل شيئ قبل ان نفاجا بما لا يحمد عقباه .. فتح محمد عافة اجتماعا سريعا لأخذ الأراء وكان يعجبني كثيرا في هذا الجانب حيث كان منفتحا علي أراء الأخرين وقراراته في معظم الأوقات كانت جماعية ... وبعد نقاش لم يدم طويلا  يقول الرأي الصائب الذي اتفق عليه الجميع وذلك  بان نسرع ونتوخي الحذر وان يرسل طوف من خمسة مقاتلين كوحدة استطلاع أمامية ثم يقسم بقية الفصيلة الي مجموعتين واحدة تتبع نفس خطي الطوف ذو الخمسة افراد من الناحية اليمني علي سفوح التلال  والأخري تكون محاذية من الناحية اليسري ... وعلي حسب معلومات الشيخ وابنه فان الوحدات كانت تتحرك في الوادي .. وانطلقنا مسرعين علي أمل أن نجد معلومات أكثر عن هذه الوحدات قبل غروب الشمس وهاهم فوج استطلاعنا المكون من خمسة أفراد انطلقوا مبتعدين عنا وبسرعة اتبع كل فرد الاوامر المعطاة من قائد الفصيلة وانهمك الجميع في المشي وكلنا عيون مبصرة واذان صاغية لكل حركة ولكل شاردة وواردة او أي شيئ مشبوه ظللنا نمشي والشمس تكاد في الأفول ولا خبر عن طوف الأستطلاع كل شيئ جائز وكل احتمال وارد والنفوس في حالة قسوة من الأستعداد واذا من البعد نشاهد غبارا متصاعدا .. الكل في المجموعة شاهد ذلك وطلب منا محمد عافة في الصعود الي التل أكثر وأكثر ولنأخذ مواقعنا حتي نتأكد من مصدر الغبار الخارج من وسط اشجار السدر الكثيفة .. أخذنا مواقعنا ولم يطل الأنتظار حتي سمعنا اصواتا من مكان الغبار واتضحت الأصوات قاطعة الشك وقليلا حتى شاهدنا أغنام الماعز "عطال" وهي مسرعة تعبر الوادي في طريقها الى القرية التى غادرناها تود الوصول قبل الغروب .. انطلق محمد عافة مسرعا نحو الراعي الذي فوجئ بوجودنا وتحدث اليه سائلا ان كان قد شاهد وحدات اخري غيرنا  ورد الراعي بتساؤل واستغراب عن ماذا في الامر ولماذا كل هذه الوحدات من الجبهة في هذا الوادي اليوم .. طمأنه محمد عافة قائلا بأنها مجرد صدفة في تجمعها وليس في الأمر ما يثير القلق وفي اثناء حديثه مع الراعي شاهد طوف الأستطلاع عائدا .. شكر الراعي وتركه يواصل في طريقه .. ووصل الطوف عائدا ومعلوماتهم تشير بان الوحدات التي شاهدها الشيخ وابنه تتبع للجبهة وانهم سوف يقضون ليلتهم بالقرب من الوادي ولقد تحدثوا معهم وأخطروهم بتواجدنا كذلك في المنطقة .. شكرهم محمد عافة علي ادائهم للمهمة باكمل وجه وكانت أخبار تفتحت لها اسارير وجوهنا وعمتنا الغبطة والفرحة .. هذا ما  كان المسؤلين في الجبل يتوقعونه اي تواجد وحدات من الجبهة في المنطقة ... طلب منا محمد عافة بالمواصلة في المسير رغم غروب الشمس حيث قال لا يعقل ان نكون في نفس القرية ونثقل علي المواطنين أكثر .. كان محمد عافة ذو تجربة وحنكة ودراية في أمور الميدان والنضال والتعامل مع المناضلين والمواطنين يضع لكل شيئ حساب ولا يخلط في الأمور .. لا يود أن يثقل علي المواطنين من نفس القرية ففضل أن نواصل المسير حتي القرية التالية هذه كانت ملاحظة والملاحظة الثانية انه عندما وصلنا القرية التالية طلب منا أن نعسكر خارج القرية بعيدا عن الوادي وهاتين الملاحظتين تنم عن وعي وادراك وفهم بالمسؤلية .. جهله بالقراءة والكتابة حينها لم ينقص من قيمته القيادية أو من تجاربه وخبراته الميدانية ... انه يدري جيدا بأن هناك وحدات قد عسكرت بتلك القرية وسوف تحتاج الي الماء والكلأ من مواطني تلك القرية وان عسكرنا بالقرب منهم في نفس القرية فهذا سوف يضاعف الضغط على المواطنين وربما يؤدي مع التكرار الي نفور المواطنين من استقبالنا وهذا ما تفاداه هذا القائد المسؤول .. اما الملاحظة الثانية فهو عندما أشار بالابتعاد عن الخور كان يسوقه في ذلك حدثه كابن الريف القريب من الطبيعة وتقلباتها .. كابن الريف المتتبع والملاحظ للتغيرات الموسمية وما يجب التحوط منه .. تذكرت هذه الملاحظة وأيغنت وأدركت معناها ومدلولاتها في اليوم التالي عندما كنا نعبر خور كوكلاي وهو من الخيران الرافدة لسبر كانت السماء غير ملبدة بالسحاب وكان اللون الأزرق طاغيا في السماء وشمس العصرية قوية لافحة كنت قريبا من المؤخرة حيث كان زميل واحد خلفي .. ونحن نعبر في الخور الجاف ذو الرمال الناصعة البياض ألاحظ مقدمة متحركة في شكل رأس ثعبان ضخم مسرعة بالتواءات وتعرجات والراًس يحمل "قُفوف" اي زَبدُ الماء وأسمع صياح الرفاق متعاليا يطلبوا منا بالأسراع والخروج وتطاير قلبي عندما شاهدت ما خلف ذلك الراس من الزَبَدِ ياللمصيبة انه سيل جارف يحمل الحجر والشجر .. تتلاطم أمواجه .. المفر المفر ونحن نسرع ونركض الي الناحية الثانية من الخور الثائر والهائج .. حمدا لله خرجنا أنا وزميلي سالمين غير مصدقين لما نراه .. لا يُصَدَقُ ما يحمله هذا السيل العرمرم وقفنا مدهوشين نشاهد هذا المارد وهو يدحرج كل هذه الأثقال بجبروت وعنفوان رغم أنه لم تصب علينا قطرة من الماء .. فلا أمطار ولا رعد ولا هدود لكن وللذي يشاهد بعيدا فوق جبال الماريا يرى السماء داكنة ملبدة بالسحب الثقال .. وهاهو محمد عافة ابن الريف المُلِمُ بخبايا وأسرار المواسم أدرك ذلك ومنعنا من المبيت في الخور احساسا منه بالمسؤلية وحفاظا علي أروحنا وكم من الشهداء البواسل جرفهم السيل في مختلف بقاع الوطن فالطبيعة الجبلية للبلاد وعدم خبرة أبناء المدن من المناضلين في هذه النواحي أدي لكثير من الحوادث فقدنا علي اثرها خيرة الشباب .. مكثنا في كوكلاي ونحن نتابع التدفق الكاسر لهذا الوادي ورغبتنا في أن نشاهده يهدأ ونتأكد من ذلك قبل الأنطلاق لأن أمامنا أودية موسمية أخري وسوف تكون بنفس الشأن والمقدار وهذه أيضا كانت من نصائح قائدنا محمد عافة.. وفي تلك الأثناء وبينما نحن جالسين بالقرب من الوادي صار أحد المقاتلين وهو كبير في السن يحكي لي عن قريته القابعة في السلسلة الجبلية العالية التي نشاهدها من علي البعد والتي كانت مصدر هذا الغيث الذي فاض به كوكلاي متدفقا .. قال انه من أسماط وصار يشوقني بتلك المنطقة بأسماط والطريق المؤدي اليها بدءا  بمتكل أبي فحلحل فيشو ثم ماي أوالد ثم ملبسو متبوعة برهيي وكيف ان هذه المناطق توازي الجبل جمالا وبهاءا وكيف ان الأخضرار هو السمة الطاغية لتلك المناطق وذكر لي معلومة كنت لا أعرفها  قال عندما تتحدث الناس عن رورا ماريا لا يدرون بأن حلحل ومتكل أبي وماي أوالد جزء من رورا ماريا  وهي المناطق الناطقة بالبلين وذكر كذلك بأن السيارات كانت تأتي من كرن ذاهبة الي حلحل ومواصلة حتي أسماط مرورا بكل المناطق سالفة الذكر... شوقني هذا المناضل لتلك الجبال الشامخات .. وهاهو كوكلاي يهدأ ونزلنا في أطرافه نغسل وجوهنا ونملأ زمزمياتنا وما أجمل مياهه بعد الهدوء مغرورغة تشاهد من تحتها ومن خلالها الرمال هادئة ناعمة ويا للفرق بين الأن وبين تلك اللحظات التي نجونا فيه بأجسادنا ونحن غير مصدقين .. كوكلاي هذا الذي جمع بين العنفوان والهدوء ترك أثاره عميقة محفورة في أعماقي لا تنسي رغم وجود النسيان ولا تنسي رغم تراكم السنين.
ونواصل ......

Saturday, March 28, 2015

محاز سبر ودبر معر



 
صارت العيادة المركزية مستقطبا للمارين من بركا الى الساحل أو كذلك من المناطق الأخري متجهين  الى بركا وأعداد النزلاء في ارتفاع كل يوم وصرنا جراء ذلك نعاني نقص في المواد التموينية "الامداد كما يقال في الميدان" ... كمية السكر والزيت التي تعطى لنا صارت كل يوم في تناقص فرغم الشح والعسر المعتاد عليه في الامداد الا ان الامور صارت  تتفاقم نحو الأسوأ كما ان المعلومات صارت تتوالي بقرب خروج العدو من مدينتي كرن وأغردات في اتجاه دبرسالا ... أمور كثيرة صارت تتبدل لكن الشيئ الوحيد الذي لا يتبدل ولا يتغير هو المعنويات العالية التي تتجلي في التفاني والتعاضد والتاثر وجو الأخاء والرفاقة ووحدة المصير الجو المفعم بالحب والمرح كان يساعدنا على تجاوز الصعاب وكنا نركز علي الايجابي من الامور والأشياء  ..ومن المؤكد بان المسؤولين في صدد فعل شيئ أو التخطيط لشيئ ما كما عودونا في كل المواقف التي تحتاج الي دراسة وتمعن .. وكما توقعت  فقد صدق ظني بهم .. لقد دعينا الي اجتماع موسع للسرية وادارة العيادة والقيادة المتواجدة .. جل الحديث تركز علي صعوبة المرحلة وعلي كيفية تجاوزها والعبور الي مرحلة أفضل وهناك حزم (بكسر الحاء وفتح الزين) من الأمور علينا تنفيذها .. منها تقشفي ومنها عسكري يجعلنا في موقف المبادرة عوضا عن انتظار العدو في الجبل وكذلك التنسيق مع الوحدات الأخري في المنطقة .. وعلي ضوء هذه الحزم من القرارات يتوجب نزول فصيلتنا الي الاتجاه الشمالي للشرقي من الجبل كفصيلة استطلاع وتنسيق مع الوحدات الأخري وذلك للتحوط وأخذ السبق اذا خرج العدو من اتجاه مدينة كرن اما الفصيلة الثانية فسوف تنزل من الجبل باتجاه بركا وتنتقل بالمنطقة منسقة مع الوحدات الأخري المتواجدة هناك وذلك لتوخي الحذر اذا خرج العدو من مدينة اغردات وكذلك لدرء العدو من الخروج فالتواجد المستمر للوحدات بضواحي المدينة وحصول العدو علي تلك المعلومات ربما يمنعه من التفكير في الخروج وعوضا عن ذلك يفكر في التمترس بداخل المدينة .. اما الفصيلة الثالثة فسوف تبقى مكانها بالجبل وبهذه الخطة تضرب الفيادة عدة عصافير بحجر واحد .. أعجبني ما سمعت فقد كنت متشوقا للنزول من الجبل خصوصا في اتجاه الشمال الشرقي حيث يجعلني ذلك استنشق عليل ضواحي كرن .. وكم كنت سعيدا عندما علمت بأن الفصيلة الاولي سوف تنزل باتجاه رورا ماريا وترابط حوالي الجبل من ذلك الأتجاه ... خطط جميلة كلها في المجمل أما في التفاصيل فسوف نعتمد علي قدرة المواطنين لتحمل الأعداد المتذايدة من المناضل في مناطقهم ولفترات طويلة قعندما تكون في حراك دائم يكون أعتمادك علي المواطنين في المواد التموينية وأحيانا المواطنين نفسهم تكون ظروفهم المعيشية متعسرة أو يكون مطحون الذرة غير كافي أو ليس هناك من يطحن الذرة لعمل العصيدة للمناضلين ربما تكون بيت أو بيتين وعندما تحضر فصلية أو فصيلتين يصعب علي العائلة أو العائلتين اطعامهم .. كانت القري الكبيرة هي وحدها القادرة علي اطعام واسقاء الأعداد الكبيرة في أن واحد .. أن المواطنين في الريف تحملوا أكثر من طاقتهم وفعلوا أكثر من قدرتهم وساهموا بأكثر من نصيبهم من أجل أن تكبر الثورة ويشتد عودها ويذداد انتشارها وتوسعها .. المواطنين في الريف هم الذين حموا الثورة عندما كانت يافعة تحتاج الحماية وهم الذين أطعموها عندما كانت ضعيفة تحتاج الأطعام والسقاية وهم الذين مكنوها عندما كانت تحتاد التمكين والعناية .. لن أوفي ولن يوفي أحدا للريف حقه مهما قيل من الكلام .. بعد انفضاض الأجتماع الكل كان سعيدا والكل كان متحمسا للخطوة التالية .. لقد أحسنت قيادتنا وأعني المتواجدة في الجبل أحسنت في التفاعل مع الأحداث والتطورات الميدانية واتخذت الصائب من القرارات التي أظهرت لاحقا بعد نظرهم في الرؤيا والتخطيط وللأسف لم تستفد الجبهة كثيرا من هؤلاء الشبان في المراحل اللاحقة .. بدأت الحركة تدب في فصيلتنا في التجهيز والأستعداد للنزول .. أعتقدت وحدي من كان يحب النزول من الجبل والتنقل والحركة الدائمة في الأماكن المختلفة لكن هؤلاء كل زملائي لهم نفس الانطباع والشعور .. دبت الحركة وترا الناس مشغولة كلها .. جزء يغسل وجزء يحيك في الملابس الممزقة وجزء يرقع في الحذاء البلاستيكي القديم "الشدة" ويضيفوا عليه طبقة أخري من الأسفل وذلك بقطع الجانب الأسفل من حذاء أقدم ورقعها في الحذاء بواسطة سكين ساخنة .. الكل يعمل شيئا للأستعداد وخلال يومين نحن في أتم الأستعداد والأسلحة قد نظفت والذخيرة قد زيدت لكل فرد والنفسيات تعانق السماء علوا وارتفاعا .. وفي ذلك الصباح الجميل الباهي تحرك الجمع وأنطلقنا في المسير وهذه المرة ينتابني شعور وأحساس يختلف عن المرات السابقة التي ذهبت فيها لمهام أخري .. هذه المرة تختلف كثييرا عن المرات السابقة فهذه المرة نحن في صدد النزول من الجبل الي مناطق جديدة الي عالم جديد لم أحلق بفضائة قط .. بدأنا المسير في خط سير طويل وممتد ذو تعرجات ومسافات بين الأفراد .. أحب المشي في المقدمة لكني وضعت بالقرب من المؤخرة لكن لا علي ولا أبالي فخط السير هو هو نفسه .. ذهبنا طويلا حتي بدأت معالم الأنحدار والنزول تتجلي وعبق النسيم البارد يهب ومن علي البعد أري جبالا متراصة شامخة العلو وأتساءل عن اسمها فيقال لي بأنها "رورا ماريا" أي هضبة جبال الماريا وهي المرة الأولي التي اكون فيها وجها لوجه مع رورا ماريا ولا أدري ما السر في تسمية الهضاب بالقبائل فنقول رورا بيت قبرو.. رورا منسع.. رورا حباب وعندما يكون الحديث عن المرتفعات نقول "كبسا" أي الهضبة اجمالا عن كل المرتفعات وليس كبسا حماسين أو كبسا أكلوقزاي أو كبسا سرايي ففي التقرايت نفصل وفي التقرانيا نجمع لا أدري ما السر في ذلك ولكن منظر الرورا كان مهيبا من علي البعد يجلجل النفس ويرغمك علي التقدير والأعجاب ودون أن تدري تقول ياسلام ياسلام .. واصلنا النزول طول النهار وفي المساء وعند غروب الشمس وصلنا أعتاب الجبل وبمواجهة دبر معر وفي الجانب العلوي من خور سبر وهنا أيضا ترغم علي أن تقول مرة أخري يا سلام  يا سلام .. دبر معر جبل واحد لكنه شاهق جدا ومرعب تخيل صعوده .. أحساس جميل أنتابني بعد وصولنا لأول قرية أراها من مدة .. عسكرنا خرج القرية وذهب ثلاثة منا للقرية ليأتوا بالماء والنار وليشعرو أهلها بأننا في حوجة لكلأ نأكله .. كان ذلك أول مبيت لنا في "سبر لعال" أعالي سبر تحت أقدام دبر معر الشاهق ومن عل البعد رورا ماريا وفي أسفل السفح من دبر سالا.      
  

ونواصل ........      

Wednesday, March 25, 2015

تسليح وتخزين واستعداد




 
منذ قدوم قائد المجموعة الجديد عبدالله وعمليات التدريب قد تكاثفت واشتدت وتيرتها فالرجل يعلم الكثير من التيكتيكات الحربية وفنون القتال وصار لنا روتين اسبوعي للتدريب وصار نفس الروتين مطبقا في المجموعات الاخري وبينما نحن في غمرة هذه الوتيرة تأتي من قائد السرية أوامر لكل فصيلة بأن تهيئ وتجهز مجموعة من المقاتلين وسوف يطلب منهم  الذهاب في مهمة خاصة ولهذا الخصوص طلب قائد فصيلتنا اجتماعا طارئا وفي الجتماع تم اختيار المجموعة التي كنت من ضمن من وقع الأختيار عليهم وهكذا اكملت فصيلتنا تجهيز مجموعتها وكذلك فعلت باقي الفصيلتين ولقد نورنا بطبيعة المهمة والتفاصيل المحيطة بها ... محمد عافة قائد فصيلتنا سوف يقود المهمة بنفسه وهاكذا وفي صباح اليوم التالي وتحت قيادته انطلق الجمع وكنا حوالي العشرين مناضلا وكنت مغرما في المش في الصباح الباكر لما يعطيك من النشاط والحيوية وذلك العنفوان مع بزوغ الفجر والفضاء الفسيح وحبات الرزاز من الندي تغطي العشائش والاعشاب وأشجار "التسس" شديدة الخضرة وكانها اغتسلت لليوم الجديد انها تبدوا أكثر بريقا وبهاءا ... حيوية الصبح الجديد تحسها في كل ما حولك من أصوات العصافير وتراقصها وانطلاقاتها بين الأشجار وتشمها في روائح وعبق النباتات المختلفة وتغوص نفسك في ذلك الرونق الأبدي من الشفق المتداخل احمرارا والمتناغم جمالا ... ما أحلي الصباح في تلك الجبال لوحة مبدع خالق يستحيل تقليدها ويذيد عشقك لها مع مرور الوقت وتظل كالولهان متعطشا للمزيد منها ودوما متعلق بها .. كنت قد سرحت مع الطبيعة وتأملي فيها وغصت في دواخل نفسي متمعنا متلمسا اغوارها وما ايغظني من ذلك الا تعثر زميلي الذي كان امامي وأخر يعاتبه "عنك يتفتح .. قدميك يتقنح" اي اما أفضل لك أن تفتح عيناك وتري جيدا أمامك ... وبعد الفيقة من السرحان صرت أباطئ في المشي حتي يلحق بي محمد عافة الذي كان في المؤخرة  خلفي وقد لحق بي وهو قائلا مالك اليوم وانت تبطئ في المشي قلت مازحا حتي لا تكون لوحدك في المؤخرة ضحك وأردف قائلا علينا ان نكمل بسرعة هذه المهمة ونكون جاهزين قلت جاهزين لماذا قال هناك معلومات مفادها بان العدو ربما يخرج من أغردات أو من كرن أو من الأثنين معا وعلينا ان نكون جاهزين وحذرين لكل الأحتمالات وهو ربما لأول مرة يحاول الخروج لدبرسالا قلت ان فعلوا ذلك فربما تكون دبرسالا مقبرتهم فلا يمكنهم المغامرة في مكان لا تستطيع سياراتهم بالوصول اليه قال ندري ذلك لكن ربما يحاولون يائسين الخروج الى الجبل ... ونحن نتحدث واذا بصوت من المقدمة يعلو"ارتكز .. ارتكز ... ارتكز" وارتكزنا جميعا ما عدا محمد عافة الذي هرول مسرعا الي المقدمة ليستطلع الامر وكان قائد احدي الجموعات في المقدمة وطلب محمد عافة من اثنين من الجنود ان يسرعوا في الاتجاهين ويستطلعوا الأمر وصار واضحا مصدر الصوت العالي الذي يشبه هدود السحب الداكنة قبل نزول المطر ... الزميلين اللذين خرجا للاستلاع أكدا بانها أبقار الرعاة وعلينا ان نبتعد عن طريقهم فالأبقار شرسة عندما لا تطمئن ولا تأمن من  هم حولها ولا يجب المخاطرة وعند أوامر محمد عافة صعدنا قليلا مبتعدين عن طريقها وفي المؤخرة كان الراعي الذي تبادل التحايا مع محمد عافة ثم واصلنا في طريقنا وصرت لحالي بالمؤخرة بعد ان واصل محمد عافة مع مجموعة المقدمة كنت أود ان أأخذ تفاصيل أكثر عن مهمتنا هذه من محمد عافة والان وهو في مجموعة المقدمة علي التمهل حتى تتضح كل التفاصيل لاحقا ... بعد مشوار قرابة النصف يوم وصلنا الى الموقع المحدد والذي فيه من المفترض ان نلتقي بمجموعة اخري من المقاتلين القادمين من بركا ومعهم جمالا محملة بالأسلحة ... ربما وصلنا قبلهم فلا أحد هنا .. أرسل محمد عافة تلاتة أفراد للاستطلاع والحراسة معا واستظللنا تحت الظل الباسق لشجرة الجميز الكبيرة ذات الأغصان العريضة .. انها شجرة ضخمة وظليلة وهي نقطة التعارف والموقع المتفق عليه .. جلست قريبا من سليمان الكردفاني الذي تمرس كثيرا في مثل هذه المهام تبادلنا التحايا وبدأنا نحكي قال من الطبيعي جدا أن لا تصل المجموعتان في نفس الوقت لأن كل منها قادم من اتجاه مختلف ثم انهم عادة يتأخروا لأن معهم الجمال وكذلك هم في طريق الصعود للجبل وهذه عوامل تجعلهم يتأخروا وأردف في حديثه قائلا بان ذلك يعطينا وقتا ومجالا للراحة والاسترخاء قبل قدومهم ونحن في أمس الحاجة لذلك ... لقد وصلوا قبل أفول الشمس بقليل وسمعت محمد عافة يقول بان هذا انسب وقت للجميع... أنزلنا الأمتعة من الجمال بسرعة وانطلقوا عائدين ... الأن وكما ذكر القائد محمد عافة مهمتنا تتلخص في ثلاثة أقسام .. مجموعة سوف تذهب الي موقع التخزين وتبدأ في الحفر وأدوات الحفر مدفونة هناك ومجموعة ثانية سوف تبدأ في حمل ونقل صناديق الأسلحة والتي كما سمعت قادمة من سوريا أما المجموعة الثالثة فمهمتها الحراسة وهكذا تم تقسيم المهام بين المجموعات ونصيبي كان مع مجموعة الحفر وطلب مننا ان نحمل  جزءا من الصناديق ونحن في طريقنا الي الموقع وكذلك فعلنا وما أثقلها من صناديق وكان سليمان يعلم الموقع جيدا وكذلك يعلم الموقع التي دفنت في أدوات الحفر فقد قام بهذا الدور سابقا .. بدانا في الحفر مع غروب الشمس وكانت فكرة سليمة حيث الحفر في هذه الأرض الصلبة يحتاج جهدا جبارا وجو المساء البارد وكذلك عتمة الليل وفرا لنا الجو المناسب للعمل .. تناوبنا في الحفر بالمقايس التي رسمت من قبل ووضعنا شوالات البلاستيك وغطينا الأرضية تماما ثم بدأنا ننزل في صناديف الأسلحة واحدة بعض الأخري نفس النوعية ونفس المقاسات سويا وفي حفر منفصلة وهناك زميل يأخذ البيانات والكمية وعدد الحفر ومابكل حفرة وكنا نسرع من أجل ان نكمل في وقت قصير .. كان الظلام دامسا والعتمة كاملة وكنا نستعين بنور البطاريات وذلك عند الضرورة فقط حيث لا نود جلب أي أنتباه أو اهتمام أي شخص حتي وكل شيئ كان يسير بتسارع كما أردنا له حتي أتي أحد أحد الزملاء من مجموعة الأستطلاع مسرعا مهرولا يبحث القائد محمد عافة ان هناك أصواتا وحركة شديدة من علي البعد عندها طلب منا التوقف وأخذ مواقعنا في الاستعداد لاي طارئ .. أخذنا مواقعنا والظلام يكاد بعتمته يغطي كل شيئ رغم ذلك أخذنا مواقعنا في المواقع المرتفعة من المكان والأصوات تشتد وتذداد أرتفاعا وهنا كل شيئ متوقع خصوصا وأنها عملية يجب أن تكون في غاية السرية والكتمان لكن رغم ذلك لا ندري ما مصدر هذه الأصوات .. نزلت مجموعة لتقترب أكثر من مصدر الأصوات كي لا نؤخذ بحين قرة وصوتها يذداد ارتفاعا مع حركة الحشائش والأشجار وأحيانا الصخور الصغيرة .. تعالت الأنفاس وعم الغموض والحيرة حتي سمعنا صوتا طمأن الجميع وبدأ الضحك يتعالي من كل اتجاه .. انها الأبقار "أحي مهسي" الأبقار التي تعلف عادة في الليل ... ضحكنا طويلا وطلبنا من الراعي أن يبعد أبقاره من تلك المنطقة وفعل وعدنا مكملين لعملنا مع طاقة جديدة ومرح اكتسبناه من تبدد هذا التوتر المؤقت .. أكملنا عملنا وأعدنا التربة والحشاثش والأحجار الصغيرة التي كنا قد أزلناها مؤقتا وأعدنا كل المظاهر السطحية لموقعها بشكل مرضي وقضينا بقية ليلتنا في نفس الموقع .. وفي الصباح الباكر وفي ذلك الوقت المفضل للجميع بدأنا في طريق العودة الي المعسكر.  



ونواصل ........      

Saturday, March 21, 2015

أتسيون حمد والمناضل عبدالله

 


بدأ الاستقرار يدب في مفاصل المعسكر وبدأنا نسترخي في روتين حياتنا اليومي ومستجداتنا بين مجموعة وصلت وأخري غادرت وحراسة وورديات وتناوب وانبساط متواصل مع أبوعفان وعبي والطرب علي نغمات التقرايت وبين هنا وهناك أنزل الي العيادة المركزية وأستمتع بالحديث مع مجموعة مختارة علي رأسهم الشهيد ادريس عمر الذي هو أكثر من موسوعة بل مكتبة وأكثر ... كنت حقا أستمتع بأي حديث هو طرف فيه .. كان عالي الثقافة ومدرك لأدب الحديث فلا يثرثر ولا يقاطع يستمع اليك جيدا وعندما يتحدث تتمني أن لا يتوقف وأنا متأكد بأن كل الذين عاصروهو يكون لهم نفس الأنطباع أو أكثر ... مواقف كثيرة جمعتني به وأكدت لي ذلك المعدن النفيس حيث كان يدرك مقام وموقع المسؤلية وكان يتصرف وهو مدرك لذلك .. أذكر ونحن في طريقنا الي دبر سالا كنا نستعين بالمواطنيين في كل قرية نصل اليها علي ايجاد جمل يحمل اثقالنا الكثيرة والتي أغلبها كان من الأدوية والمعدات الطبية وكانت الأمور مسهلة في الحصول على جمل من تلك القرية يأخذنا الي القرية التي بعدها وهكذا كانت الأمور حتي وصلنا الي احدي المواقع بها بيتين من السعف (بيوت الرحل) ...وصلنا وأنزلنا أحمالنا من الجمل وشكرنا المواطن الذي أوصلنا الي هناك بجمله وولي عائدا من حيث أتي .. قضينا وقتا بتلك المنطقة .. أحضروا لنا نارا وماءا ثم أطعموننا عصيدة والي هنا كل شيئ كان عادي حتي سألنا ان يعطونا جملا يوصلنا للقرية القادمة وهنا أذكر جيدا كيف ثار المواطن وتطاير الشرر من عيونه غاضبا ورافضا اعطاء جمله حيث قال بأنه عاد لتوه من مساعدة مجموعة أخري من المناضلين وانه وأسرته تأخروا عن  الركب في الرحيل من ذلك الموقع الموسمي بسبب ذلك والأن ليس بمقدوره عمل ذلك .. فحديث المواطن منطقي ومقبول لكن أمتعتنا كثيرة وسوف يصعب علينا حملها والمواطن كان يتحدث التقرايت بلكنة توحي بانه يتحدث البداويات وهذا ما فطن اليه احد من الرفاق وتدخل متحدثا مع المواطن بالبداويات وبعد خذ وهات من الحديث صار صوت الرجلين يتعالي والغضب صار باينا في عيون المواطن وفي نبرات صوته وفي تعالي انفاسه ومما فهمنا لاحقا بان زميلنا ذكر للمواطن بأنه سوف يرغم ان لم يفعل ذلك بالتراضي وهنا كان دور الشهيد ادريس المدرك والمقدر والمتفهم لظروف المواطن الذي اعان وفعل الكثير والكثير للمقاتلين قبلنا ورغم الحاحية موقفنا الا ان المواطن له الحق فيما قال وله الحق في الغضب عندما لا يجد التقدير فيما فعل ويرغم فيما لا يستطيل فعله .. تدخل الشهيد ادريس واخذ المواطن بعيدا عن اسماعنا وكما عرفت لاحقا ليس لاقناعه بمصاحبتنا الي القرية القادمة وانما للاعتذار له وطلب السماح منه لالحاحنا عليه وسؤاله فوق طاقته وعندما عاد الرجلان الينا وأثار الانبساط والسرور بادية علي المواطن وهو يدعو للشهيد كل خير وان يحفظه الله من كل مكروه .. كانت انبساطة من طرف المواطن وثمنها كان غاليا علينا حيث تحدث الينا الشهيد ادريس معاتبا بان المواطن وظروفه يجب ان تكون لب همنا ومبلغ تقديرنا وتكون دائما هي الأولوية وليس العكس لقد كان حديثا له ما بعده من تأثير وهنا مكمن ومربط المسؤلية ... لقد حملنا ونحن نئن من ثقل حملنا الي أن وصلنا القرية القادمة حيث وجدنا هناك جملا بكل سهولة ودون أدني متاعب .. وهكذا كان الشهيد ادريس انسانا يقدم التضحية علي ان يجعل المواطن ضحية .. وكثيرة كانت المواقف التي تجعلك تحترمه وتقدره اكثر واكثر.

كل شيئ كما اسلفت كان عاديا وروتيني الي ان قدم الينا في ذلك الصباح المناضل عبدالله والذي لا أذكر اسمه الكامل لقد قدمه قائد الفصيلة علي أنه قائد مجموعتنا الجديد بدلا من المناضل عبدو الذي ورد ذكره في الصفحات الماضية .. وأكثر ما يشد انتباهك من الوهلة الاولي الي المناضل عبدالله هو أناقته الشديدة التي لم نتعود عليها في جو الميدان وحيث يذكرك ب "الابيس المدينة...جمع البيس" وهو مصطلح  كان يطلق علي متأنقي المدينة .. وهذا "الألبيس" كان يخفي بداخله مقاتلا جسورا .. ان نظرتي للمقاتل تبدلت منذ ان جاء المناضل عبدالله حيث ولماذا لا يكون المناضل أنيقا وعلي قدر المستطاع ولماذا يكون رث الملابس ان كان ذلك بالمقدور ..ان قصة المناضل عبدالله مثيرة للاهتمام حيث كان اولا في مجموعة الفدائيين في ضواحي كرن ولقد  كان نشطا وذو علاقات واسعة مع المواطنيين ومدركا للمنطقة وكل تفاصيل تضاريسها ومنعرجاتها ثم بعد ذلك انتقل الي وحدة الهندسة بنفس المنطقة وهذه الوحدة هي التي كانت تضع الألغام في طريق مرور قوات العدو او عند ضرورة التخلص من بعض قواد الجيش الاثيوبي .. المناضل عبدالله كانت له سمات خصوصية تجعله يختلف من الجموعة في أشياء كثيرة ... كنا نشرب الشاهي في "أذانيت" وهي كباية من الحديد المطلي بينما هو كانت له كباية خاصة من الزجاج وكان يغسلها جيدا ويلفها في شاش قبل يضعها في حقيبة ظهره .. كان نظيفا لأبعد الحدود بدأت علاقاتي به تتوطد تدريجيا وكان يحكي لي كثير عن المواقف والتجارب التي مر بها وكم من مرة يكون بين قاب قوسين أو أدني من الموت المحتوم وهكذا قصصه كانت تجزبني كثيرا لما فيها من الأثارة والبطولة وشخصيته كانت وحتي ملامحه كانت تذكرني بشخصية معروفة في مدينة كرن في أوخر الستينيات وأوائل السبعينيات "عبدو قرت" كان أنيقا يهتم بمظهره كثيرا لكنه في المقابل كان شجاعا جسورا لا يبالي في نزال جنود العدو السكاري ... المناضل عبدالله عندما تنظر اليه يخيل اليك بأنه هو عبدو قرت نفسه دما ولحما .. ذات مرة وفي ذلك الصباح الندي ونحن جالسين نشرب في الشاهي امتد الحديث ليصل الي تلك العملية التي قامت بها وحدة الهندسة بالقرب من قرية أتسيون حمد في ضواحي مدينة كرن ... قال حولي الشهر ونحن مرابطون بتلك النواحي نسجل في المعلومات متي يصل القطار الي المحطة وكم يمكث ثم متي يتحرك متجها الي أغردات مارا بالقري الأخري في الوسط .. قال جمعنا كل ما يهمنا من تفاصيل عن العاملين بالمحطة وبالقطار وعن مواعيد مرور القاطرات الأخري حيث كانت اللترينة تمر بالصباح (قاطرة بعربة واحدة) وسجلنا كل المعلومات وكنا في غاية الحماس ننتظر وقت الصفر للقيام بالعملية كما كان لنا متعاونين يعملون في المحطة وعند يوم الصفر كانت الخطة جاهزة وكانت تقتضي بأن نذهب في وقت مبكر الي المكان المحدد والذي كان قريبا من قرية أتسيون حمد واخراج القضيب من مساره في اتجاه المنحدر الذي كان حادا .. يقول فصلنا القضيب باخراج الصواميل الكبيرة التي تربط القضيب في فلكات الحديد ثم حنينا القضيب تدريجيا تجاه المنحدر وتطلب منا ذلك العمل جهد عضلي شاق وبعد أن أدينا ذلك  انتقلنا الي المحطة وأنتشرنا بها وقطعنا كل خطوط الاتصال وكان دور المتعاونين من العمال كبيرا جدا في أن تتم العملية بهدوء تام حتي وصل القطار جارا عرباته وتوقف وكل شيئ يسير بنفس الروتين الأعتيادي والبنات والاولاد من الباعة يتصايحون "قلو قلو .. عتر عتر .. هيا زيتون .. هيا زيتون" والحريم يبعن "الزنابيل والمشارف"  أي السلال والهبابات .. قال في لحظات وكنا قد سيطرنا علي القطار وأنزلنا جميع من فيه من الركاب والعمال وطلبنا من السائق أن يحركه ليسير لوحده وهكذا فعل وأنطلق القطار الي رحلته الأخيرة أوقل الي مقبرته حيث وصل الي الموقع الذي فصل فيه القضيب وتدحرجت القاطرة الي الهاوية لتتبعها العربات وقال هاكذا شهدت أتسيون حمد بقدرة الثورة علي أختيار المكان والزمان ونوعية العملية وكان ذلك تحد كبير للعدو الذي لم يكن يبعد سوي عدة كيلومترات قليلة من المحطة .. قال تمت العملية دون أراقة قطرة دم واحدة وكانت للعميلة صدا محليا ودوليا .. وأردف قائلا بأن سر نجاح العملية كان يكمن في التعاون الكامل للمواطنين مع الجبهة وللتخطيط السليم للعملية .. ياله من صباح ممتع تشرب فيه الشاهي وتستمتع بسماع القصص البطولية من المناصل عبدالله...


ونواصل ........